ريشة وألوان وكارتون.. فاطمة المطوري تروي حكايات الفاو

البصرة- نغم مكي
على بعد مئة كيلومتر جنوب البصرة، في مدينة الفاو الساحلية، تجلس فاطمة المطوري وسط مرسمها الصغير، تحيط بها لوحات ومجسّمات كارتونية وعلب ألوان وقطع متناثرة من الكارتون. بأناملها المخضّبة بالأصباغ وبخدش خفيف على أحد أصابعها تلتقط إحدى رسوماتها لتضفي عليها اللمسات الأخيرة، في مشهد يومي تعيد فيه تشكيل العادي إلى فن نابض بالحياة.
تبدأ الفنانة التشكيلية فاطمة المطوري (37 عاماً) يومها برحلة بحث دقيقة بين محالّ بيع المعدات الكهربائية، متنقلة بتأنٍ بين رفوفها، تفتّش عن قطع كرتون مخصّصة للتغليف والشحن. ما يبدو كمخلّفات عادية في عيون الآخرين، تراه فاطمة خامة فنية تحمل إمكانيات لا تُحصى. في يدَيها، تتحوّل هذه القطع البسيطة إلى لوحات نابضة بالتفاصيل والألوان تنقل من خلالها أفكارها وهواجسها، وتترك وراءها أثراً فنياً يضفي على مدينة الفاو طابعاً من الحياة والإبداع.
تدوّن فاطمة القياسات المناسبة على صفحات دفترها الصغير، ثم تلتقط إحدى الشفرات القريبة منها والمعدة للحفر على الكارتون لاستخراج القطع بدقة، وتلوّن فرشاتها وتغوص في الرسم. ولصعوبة تثبيت الألوان على الورق، تستخدم ألوان الأكريلك، متجنّبة الألوان المائية والزيتية سريعة الامتصاص، وتُعيد التلوين أكثر من مرة لتظهر اللوحة كما هو مطلوب.
لم يكن الرسم على الكرتون من اهتمامات فاطمة في البداية، ولم يخطر لها أنه قد يصبح جزءاً من مسارها الفني، حتى شاهدت أحد الرسامين يستخدمه في تشكيل لوحاته. حينها، ولدت الفكرة وتحولت إلى شغف دفعها لاكتشاف إمكانيات هذه الخامة المتوفرة والقابلة لإعادة التدوير بأسلوب مبتكر يضفي عليها بعداً جمالياً جديداً.
رأت فاطمة في الكارتون تحدياً لنفسها، فهو ليس مجرد سطح للرسم، بل مادة تمنحها الفرصة لتطوير مهاراتها بطريقة فريدة لم يسبق لكثير من الفنانين في بيئتها أن خاضوها. لم يكن المكان عائقاً أمامها، بل خصصت مساحة خاصة لأدواتها ولوحاتها، لتخلق أجواءً تلهمها وتساعدها على التجديد والابتكار. وكما تقول: “لا بدّ للفنان من جوّ خاص يحفّزه على الإبداع، ليبتكر شيئاً جديداً يعبر عن روحه”.
جسّدت البيئة التي نشأت فيها فاطمة دوراً أساسياً في صقل موهبتها وتشكيل رؤيتها الفنية. فقضاء الفاو، كما تصفه، يحمل سحراً خاصاً يمتزج فيه الجو العام مع الطبيعة البحرية، حيث تتراءى مشاهد الصيادين والسفن التقليدية المعروفة بـ”اللَّنجة”، مما انعكس بوضوح على أعمالها.
تقول فاطمة: “التناغم بين البحر وحياة الصيادين ألهمني وجسّدته في العديد من لوحاتي، من بينها خارطة البصرة وقضاء الفاو، إلى جانب نماذج السفن المصنوعة من الكارتون”.
ولم تقتصر أعمالها على المشاهد البحرية، بل كان للشخصيات البصرية والشعراء حضور بارز في فنّها، حيث استلهمت من ملامحهم وحكاياتهم تفاصيل تعكس هويتها وانتماءها للمكان.
ترى فاطمة في الفن أكثر من مجرد تعبير إبداعي، بل وسيلة لحمل رسالة توعوية، خاصة فيما يتعلق بالحفاظ على البيئة. فقد وجدت في إعادة تدوير الكرتون بديلاً عن حرقه أو التخلص منه، مما يساهم – ولو بجزء بسيط – في تقليل التلوث. لم تكتفِ بتحويله إلى لوحات فنية، بل طوّرت أسلوبها ليشمل النحت على الكارتون، فصنعت منه مجسمات وأشكالاً متعددة، محوّلة ما يُعتبر نفايات إلى أعمال تنبض بالحياة.
في حديث مع منار ماجد، المتخصصة في الجغرافيا والمدرّسة في جامعة ذي قار، أوضحت أن الكارتون يُعد من النفايات الصلبة التي غالباً ما تتعرض للتلف أو الحرق خلال الاستخدامات اليومية، مما يؤدي إلى إنتاج غازات سامة تضر بالبيئة والصحة العامة. تعقّب فاطمة قائلة: “هذا بالضبط ما دفعني إلى إعادة التفكير في استخدام الكارتون بطرق مفيدة. شعرت أن بإمكاني تحويله إلى شيء جميل بدلاً من أن يكون مجرد نفايات تُحرق وتلوث الهواء”.
وتشير منار إلى أن نظام إدارة النفايات في العراق لا يعتمد على الفرز حسب النوع، مما يؤدي إلى اختلاط نفايات الكارتون مع بقية النفايات الصلبة، مثل البلاستيك، وبالتالي يتم حرقها معاً، مما ينتج عنه غازات ضارة مثل أول أكسيد الكربون (CO)، وكبريتيد الهيدروجين (H₂S)، وثاني أكسيد النيتروجين (NO₂)، وسيانيد الهيدروجين (HCN)، والتي تؤثر سلباً على جودة الهواء.
تقول فاطمة بأسف: “أحياناً أفكر، كم عدد القطع التي أستخدمها والتي كان يمكن أن تُحرق؟ كم عدد اللوحات التي كان يمكن أن تتحول إلى رماد لو لم ألتقطها وأمنحها حياة جديدة؟”
تضيف منار: “تؤدي هذه الانبعاثات إلى أضرار بيئية وصحية خطيرة، مما يستدعي تحسين إدارة النفايات، والانتقال إلى أنظمة الفرز وإعادة التدوير للحد من التلوث الناتج عن الحرق العشوائي”.
وتوضح منار أن تصنيع الكرتون مصدر مهم لتلوث الماء والتربة، إلا أن تأثيره يكون أقل في العراق نظراً لكونه بلدًا مستهلكًا لا يُنتج هذه المواد محلياً.
كما تنوه إلى أن مدة تحلل الكرتون تختلف بحسب طريقة تصنيعه. فإذا كانت صناعته تعتمد فقط على مادة السيليلوز، فإن تحلله يكون عضوياً، وغالباً ما يُعاد استخدامه في بعض الفعاليات أو في إنتاج البتموس. أما عند تعرضه للحرارة والضغط، فيتحلل لا هوائياً بواسطة البكتيريا. أما في حال إضافة مواد أخرى مثل البلاستيك، فإن ذلك يعقّد عملية التحلل ويزيد من المدة اللازمة لتفككه، ما يشكل تحديات بيئية إضافية.
وتبلغ كمية النفايات التي يطرحها العراق يومياً 23 مليون طن، وفي محافظة البصرة وحدها، يبلغ معدل النفايات المطروحة يومياً نحو 1850 طناً، مع وجود نحو أربعة ملايين ونصف المليون نسمة من السكان.
يشير حيدر رشاد الربيعي، رئيس “مؤسسة حقب للإغاثة والاستدامة”، إلى أن إنتاجية الفرد العراقي من النفايات تتغير وفقاً للمستوى المادي والقدرة الشرائية. ويُقدّر المعدل العام في أنحاء العراق – باستثناء إقليم كردستان – بـ 1.5 كغم يومياً للفرد. ووفقاً لدراسة، يتم طرح 17٪ من النفايات في بغداد والمحافظات، أي ما يعادل 4000 طن من الورق يومياً. كما تطرح محافظتا كربلاء ونينوى نفس المعدل تقريباً، أي 3000 طن، منها 500 طن من الورق والكارتون. أما بابل فتطرح 2000 طن، منها 240 طناً من الورق والكارتون، بينما يتجاوز ما تطرحه البصرة من النفايات 2500 طن، منها 420 طناً من الورق والكارتون.
ويؤكد الربيعي أن أغلب هذه النفايات تُهدر، ويتم إتلافها بدل استثمارها، ما يؤدي إلى تأثير بيئي سلبي، وهدر لثروة وطنية يمكن أن تُستخدم في تشغيل الأيدي العاملة، ودعم الاقتصاد، وتقليل التلوث البيئي.
من جانبها، تتفق فاطمة مع هذا الرأي، مؤكدة أن إعادة تدوير الكارتون لا تقتصر على الجانب البيئي فقط، بل تحمل بُعداً اقتصادياً مهماً يمكن أن يسهم في خلق فرص عمل للفنانين والحرفيين الشباب. وتشير إلى أنه لو توفرت ورش فنية متخصصة، لتحولت إلى مشاريع ناجحة.
تؤمن فاطمة بأن الفن يجب أن يحمل رسالة إنسانية، وأن يكون وسيلة للتوعية والتعبير عن قضايا المجتمع. تقول: “أحياناً أشعر أنني لا أرسم فقط، بل أعيد لهذه القطع حياة جديدة. كل لوحة أو مجسم هو قصة، جزء منها يعود لذاكرتي، للفاو، للبحر، وللحياة التي عرفتها بين أهلي وأصدقائي”.
وتضيف منار: “يمكن أن تحقق عملية إعادة التدوير فوائد متعددة، أولها اقتصادية، حيث تساهم في تقليل الواردات من المواد الخام، وتوفير فرص عمل، وتوفير الطاقة. كما تساعد على التخلص من الكارتون بطريقة سليمة، ما يقلل التلوث، ويحمي الأراضي وأماكن رمي المخلفات”.
وتوضح أن إعادة التدوير ضرورية، لكنها لا تحمي البيئة بالكامل، لأن الكارتون لا يمكن تدويره بلا حدود، فمع كل مرة تدوير، تتحلل أليافه، ما يستدعي إضافة عجينة خشب جديدة.
تشير إلى أنه يمكن تحسين إدارة النفايات الورقية للحد من خطر التلوث الناتج عن استهلاكها، كما يمكن إعادة تدويرها إلى منتجات مختلفة، لكن جودتها تختلف حسب نوعية المواد المستخدمة، وتتأثر كلما زادت مرات التدوير.
وتوافقها فاطمة الرأي، مشيرة إلى أنها تتعامل مع الكارتون ليس كمادة خام فقط، بل كجزء من رسالة، قائلة: “كل مرة أستخدم فيها قطعة كارتون، أشعر أنني أبعث بها رسالة: لا شيء عديم القيمة، فكل شيء يمكن أن يُعاد ابتكاره”.
وصرّح مصدر من قسم البيئة، طلب عدم الإشارة إلى اسمه، قائلاً: “نحن جهة رقابية نتابع مواقع الطمر، لكن لا نملك بيانات دقيقة عن معدلات النفايات، حيث يعتمد ذلك على جهد الاستثمار، والقطاع الحكومي ضعيف جداً. وحتى اليوم، لا يوجد في المحافظة معمل لتدوير الكارتون يخضع لمراقبتنا”.
وبحسب دراسة بعنوان “ما يمكن للعراق أن يحققه من تدوير النفايات المنزلية الصلبة” صادرة عن مركز البيانات للدراسات والتخطيط، فإن العراق بإمكانه سنوياً إنتاج 1.8 مليون طن من الورق، و154 ألف طن من الزجاج، و630 ألف طن من المعادن، و1.8 مليون طن من البلاستيك. ومن المتوقع أن تزيد هذه الكميات بشكل ملحوظ حتى عام 2020.
وتضيف الدراسة أن كميات المواد المفرزة من القمامة لعام 2012 كانت تكفي لإنشاء 72 مصنعاً للمعادن والورق والزجاج والبلاستيك والأسمدة العضوية والقماش، بينما من المتوقع أن تشجّع كميات عام 2050 على إنشاء مصنع لنفس المواد، مما يعني خلق مصادر جديدة للدخل، وتوفير نفقات وزارة الصحة المخصصة للوقاية من الأمراض الناجمة عن تراكم النفايات.
بإمكان العراق إنتاج 1.868 مليون طن من الورق تعادل قيمته النفطية 747.2 ألف طن مكافئ، و154.049 ألف طن من الزجاج، و632.768 ألف طن من المعادن، و1.898 مليون طن من البلاستيك. ومن المتوقع أن تصل هذه الكميات إلى 5.745 مليون طن من الورق، و1.976 مليون طن من الزجاج، و1.945 مليون طن من المعادن، و5.836 مليون طن من البلاستيك في عام 2050.
تقف فاطمة أمام إحدى لوحاتها في المعرض، تتأمل جهد ريشتها بعينين يلمع فيهما الشغف، تلامس أطراف الكارتون كأنها تستعيد رحلتها معه، تاركةً خلفها عناء الطرق ذات الاتجاه الواحد. لم تعد تكتفي بأن يراها جمهور محلي، بل تحلم بأن تصل أعمالها إلى معارض دولية، حيث يمكن لفنها أن يعبر الحدود ويحمل معه حكايات الفاو إلى العالم.
* ينشر هذا المقال ضمن مشروع “غرين بانتر” للصحافة البيئية بدعم من مؤسسة “تاز بانتر”.