كيف يعصف المناخ برزق النساء في جنوب العراق؟

ذي قار- مرتضى الحدود
في ناحية أور بمحافظة ذي قار، جنوبي العراق، تقف أم حيدر وسط بساتين شبه خالية، كانت حتى وقت قريب تزدهر بالنخيل والأشجار المثمرة. الجفاف والتصحر أجهزا على معظمها، ولم يتبقَ سوى جذوع متيبسة وعدد قليل من النخيل الشاهق. ورغم هذا المشهد القاحل، تواصل أم حيدر كفاحها اليومي وسط ظروف معيشية قاسية لإعالة بناتها الثلاث.
مع طلوع الشمس، تبدأ السيدة الأربعينية يومها بالخروج من منزلها وهي تحمل حبالاً مهترئة، تمشي مسافات طويلة سيراً على الأقدام بحثاً عن سعف النخيل المتساقط المعروف محلياً بـ”الجريدة” أو “الخوص”. تجمعه بعناية رغم أطرافه الحادة التي تخدش اليدين، ليس للزينة أو للبيع التجاري، بل لتصنع منه مكانس يدوية تبيع الواحدة منها مقابل 250 ديناراً فقط.
كيلو متر من أجل مكنسة
تبدأ العملية بجمع السعف المتساقط، ثم تعرّضه لأشعة الشمس حتى يذبل ويكتسب لوناً ترابياً. بعدها، تقطّع السعف إلى أجزاء صغيرة، وتجلس في باحة منزلها لتلفّ تلك القطع وتحوّلها إلى مكنسة يدوية تفضّلها النساء القرويات على المكانس الصناعية.
أثناء العمل، تغطي أم حيدر وجهها بـ”نقاب أسود” اتقاءً لأطراف السعف المدببة التي قد تصيبها في أي لحظة. أما يداها، فقد خشنتا من سنوات طويلة قضتها في الغزل والتقطيع والربط وساعات العمل الشاق.
تقول أم حيدر للمنصة بصوت متعب وملامح يملؤها الإصرار: “أنا لا أمتلك مرتباً شهريّاً ولا أرغب بأن أمدّ يدي لأحد”.
وتضيف أن الظروف البيئية التي تمر بها البلاد أثرت بشكل مباشر على لقمة عيشها، فقد أدت موجات الحر والجفاف التي ضربت البلاد خلال السنوات الماضية إلى زيادة نسبة الملوحة في المياه وانحسار منسوب الأنهار وتقلص المساحات الخضراء وتحويل أجزاء كبيرة من البساتين إلى أراضٍ بور وتراجع أعداد النخيل في عموم مناطق الجنوب.
“هل تصدق إن قلت لك إنني اليوم أقطع كيلومتراً أو أكثر لأجمع ما يكفيني لصنع مكنسة واحدة فقط؟ النقل يكلف، والتعب لا يرحم، وسعر المكنسة ثابت لا يتغير. فكرت أن أرفع الأسعار لكن الناس لا يشترون المكانس إذا ارتفع سعرها”.
توضح أم حيدر أنها لا تملك مصدر دخل آخر أو مهنة بديلة، ما يزيد من قلقها بشأن مستقبلها ومستقبل بناتها، خاصة مع استمرار تأثيرات الجفاف على حياتها اليومية.
تقول: “ما أحب أفكر شلون أعيش لو فقدت هاي الشغلة. منو يطعم بناتي؟”. وتتابع: “لو أكو جهة حكومية أو منظمة تساعدنا نشتغل بمهنة قريبة من هذا الشغل، نقدر نعيش ونأمّن مستقبل أحسن لبناتنا”.
نار مشتعلة
آثار التغيرات البيئية والمناخية لم تطاول أم حيدر وحدها، بل نساء كثر يعملن في مهن مختلفة من بينهن أم أحمد التي قابلناها في أحد أركان سوق الصفاة القديمة بمدينة الناصرية، السوق المعروف ببيع منتجات الألبان المصنوعة بطرق تقليدية.
تجاوزت أم أحمد الخمسين من عمرها بقليل، وتعمل وسط أوانٍ معدنية وملاعق بينما تفوح من حولها رائحة القيمر والدهن الحر، وهي منتجات كانت يوماً ما زاداً للريف العراقي، لكن مع مرور الوقت جفّت الأنهار وتبدلت ملامح الحياة وبدأت مهنتها مثل غيرها من المهن التقليدية تواجه خطر الاندثار.
تقول أم أحمد، وهي تمسح العرق عن جبينها المسمر بفعل حرارة الشمس ولهب الموقد: “قيمر العرب هذا نستخلصه من حليب الجاموس ونحتاج تقريباً من 25 إلى 30 لتر حليب حتى ننتج 5 كيلوغرام”. وتشير إلى أن سعره اليوم ارتفع بسبب الجفاف فوصل إلى 16 ألف دينار وأحياناً إلى 18 ألف بعدما كان لا يتجاوز 12 ألفًا.
تعمل أم أحمد في هذا المجال منذ أكثر من ثلاثين عاماً ولم تمتهن عملاً غيره، تستلم كل فجر حليب الجاموس من المزارعين لتبدأ يوماً طويلاً من الطهي على نار هادئة.
“أقعد أمام الموقد من 8 إلى 9 ساعات ننتظر القيمر يتكاثف، لكن بهالظروف الوضع ما عاد جيد” تقول بينما يتصبب العرق من وجهها، وتشرح أن المشكلة لا تقتصر على ارتفاع الأسعار، بل إن المهنة بأكملها باتت “على كف عفريت”. “إذا استمر الجفاف وقلّ الحليب، راح أفقد شغلي، وأنا ما أعرف غيرها”.
الدهن الحر أو السمن الطبيعي هو الآخر أصبح سلعة نادرة ومرتفعة الثمن، إذ يصنع من الحليب الذي تراجعت كمياته بشكل كبير بسبب الجفاف والتغير المناخي وارتفاع تكاليف الإنتاج. جميع هذه العوامل دفعت بسعر الكيلوغرام إلى الارتفاع من 10 آلاف إلى 20 ألف دينار خلال أقل من أربع سنوات. ووسط هذه الضغوط، تواصل أم أحمد عملها بصبر، فيما تبقى نار موقدها مشتعلة، في محاولة للحفاظ على مهنتها حيّة.
بساتين وعقارات
في ظل التحديات البيئية المتفاقمة، والتي باتت آثارها تمثّل أزمة حقيقية لسكان المناطق الريفية والأهوار في ذي قار، كشفت مديرية الزراعة في المحافظة عن حجم التهديد الذي يواجه ما تبقى من البساتين الخضراء. أبرز هذه التهديدات تمثّلت في عمليات تجريف واسعة وغير قانونية طالت مساحات كبيرة من البساتين خلال السنوات الأربع الماضية، وأدت إلى فقدان أكثر من 826 دونما من المساحات الزراعية ما يعني أن مئات العائلات التي كانت تعتمد على هذه الأشجار كمصدر دخل، فقدت أعمالها.
يقول مدير زراعة ذي قار، محمد عباس، في تصريح للمنصة، إن “عمليات التجريف نُفذت بأيدي أصحاب الأراضي أنفسهم، حيث أزالوا الأشجار والنخيل بهدف تحويل البساتين إلى قطع سكنية وبيعها في السوق العقارية”، موضحاً أن هذا التوجه جاء نتيجة انخفاض الإنتاج الزراعي لأسباب عدّة، في مقدمتها التغيرات المناخية.
وأضاف أن مديرية الزراعة وثّقت هذه العمليات التي جرت على مراحل خلال الأعوام 2021 و2022 و2023 و2024، في مناطق مختلفة من المحافظة، لافتاً إلى أن الظاهرة تزايدت مع ارتفاع أسعار الأراضي السكنية وغياب الإجراءات الرادعة، ما جعل تحويل البساتين إلى مشاريع عقارية خياراً مغرياً لبعض أصحابها.
ولا تقتصر تداعيات عمليات التجريف على فقدان الأشجار والنخيل التي كانت تساهم في تلطيف الأجواء والحد من التصحر، بل تمتد لتُهدد الطابع الزراعي للمنطقة بأكملها. كما تؤدي إلى زيادة الاعتماد على الاستيراد الغذائي وتُفاقم من الأثر السلبي على التوازنين البيئي والمائي.
نزوح جماعي
في السياق ذاته، كشفت دائرة الهجرة والمهجرين في ذي قار عن تسجيل مستويات نزوح مرتفعة بسبب التغيرات المناخية. وقال مدير الدائرة، بسام الغزي، في تصريح للمنصة، إن المحافظة سجلت نزوح 10300 عائلة من مختلف المناطق نحو مراكز المدن، نتيجة التدهور البيئي والركود الذي ضرب القطاع الزراعي خلال السنوات الأخيرة.
وأشار الغزي إلى أن هذه الأرقام استندت إلى آخر التحديثات الرسمية، موضحاً أن متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة يبلغ نحو خمسة أشخاص، ما يعني أن عدد المتضررين يقارب 50 ألف نسمة.
وأضاف أن موجات الجفاف، والتصحر، وانخفاض مناسيب المياه، دفعت آلاف العائلات، خاصة في المناطق الزراعية والريفية، إلى ترك مساكنهم ومصادر رزقهم والتوجه إلى مراكز المدن بحثاً عن سبل معيشة أفضل وخدمات أساسية.
وبيّن أن وزارة الهجرة والمهجرين، بالتعاون مع منظمات إنسانية ومحلية، قدّمت أكثر من 5000 سلة غذائية ومنزلية للعائلات المتضررة، إلى جانب تزويدهم بسلع معمّرة مثل الأجهزة الكهربائية وبعض المستلزمات الضرورية.
ورغم كل هذه التحديات، تواصل أم حيدر وأم أحمد، ومعهما آلاف النساء العاملات في مهن تقليدية، الاعتماد على ما تبقى من موارد البيئة لإعالة أسرهن. يعملن بصمت في ظل غياب الدعم، بينما تظل الحاجة قائمة إلى حلول مستدامة تضمن لهن فرصاً حقيقية للعيش والعمل بكرامة.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)