الفُصام ليس عيبًا.. حملة عراقية لكسر الخجل وفتح أبواب الشفاء

مهدي غريب- بغداد
في زاوية مظلمة من الصحة النفسية يقف الفُصام محاصرًا بالجهل والخوف والخجل، مرض قابل للعلاج، لكنه مغلف بنظرة مجتمعية قاصرة تضع المريض في خانة الخطر بدلًا من الاحتواء.
من هذه الحقيقة الخجولة انطلقت جمعية الأطباء النفسيين العراقيين بحملة توعوية صحية تأمل من خلالها أن تُخرج المرض من العتمة إلى الضوء، وأن تجعل من الاعتراف بالحاجة للعلاج، لا عيبًا، بل خطوة شجاعة نحو التعافي.
أطلقت الجمعية حملتها تحت عنوان “الفُصام ليس عيبًا” لتشجيع الحديث العلني عن المرض، وتثقيف العائلات والمجتمع حول طبيعته. وتهدف المبادرة إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة وتقديم رسائل مباشرة للمواطنين مفادها أن الفُصام ليس انفصالاً عن الواقع ولا حالة عنف دائمة، بل اضطراب نفسي كغيره يمكن احتواؤه والسيطرة عليه بالعلاج والدعم.
الدكتورة براء العاملي امين سر جمعية الاطباء النفسيين تقول “الأرقام تشير إلى انتشار متزايد لحالات الفُصام، خاصة بين الشباب، لكن الخجل من مراجعة الطبيب يمنع أغلبهم من الحصول على العلاج المناسب.
وتضيف العاملي “هذه الحملة تقول للمجتمع المرض ليس عاراً، والإخفاء لا يصنع شفاءً”.
بحسب منظمة الصحة العالمية، يُقدَّر أن أكثر من 24 مليون شخص حول العالم مصابون بمرض الفُصام، أي ما يعادل 1 من كل 300 شخص. ورغم أن المرض معروف طبيًا منذ عقود، إلا أن نظرة المجتمع له لم تتغير بنفس سرعة تقدّم الطب ما جعل كثيرًا من المرضى يعيشون حياةً مزدوجة بين العلاج والصمت.
ويؤكد الأطباء أن 70٪ من المصابين يتحسنون بشكل ملحوظ عند تلقي العلاج المنتظم والدعم النفسي والاجتماعي، لكن الوصمة المجتمعية تظل السبب الرئيسي لتأخّر التشخيص وبدء رحلة الشفاء.
الأرقام ترتفع والصمت مستمر
محليًا، لا توجد إحصاءات رسمية محدثة بشكل دوري عن أعداد مرضى الفصام لكن تقديرات غير رسمية تشير إلى زيادة مضطردة في أعداد المصابين بالفُصام، خاصة بين فئة الشباب.
ويعزو أطباء هذا الارتفاع إلى الضغوط الاقتصادية وندرة مراكز الدعم النفسي والانفصال الاجتماعي الذي يعيشه البعض بعد الصدمات، فكلها عوامل تُسهم في تفاقم الحالة.
في المقابل هناك حالة من الجهل في التعامل مع المرض، بحسب الدكتورة حنين الأخصائية النفسية والمشاركة في الحملة، التي أشارت إلى أن الكثير من المفاهيم الشعبية عن الفُصام لا تستند إلى العلم بل إلى الموروث والخرافة.
“نسمع مصطلحات مثل ملبوس أو مجنون أو خطر، وهذا مؤلم. الحملة تعتمد على التثقيف المجتمعي الميداني، واللقاءات المفتوحة، والمحتوى الرقمي لتفكيك هذه الصور النمطية، ونقل الفُصام من ساحة الخوف إلى فضاء الفهم”.
وتضيف أن أكثر ما يحتاجه المريض، هو قبول المجتمع له كما هو، لا دفعه للعزلة والسكوت.
الدكتور علي جبار مشارك في حملة التوعية يقول إن الحملة لا تكتفي بالتوعية فقط، بل تدعو أيضًا إلى تطوير السياسات العامة تجاه الأمراض النفسية، بدءًا من توفير العلاج المجاني وصولاً إلى إدخال مفاهيم الصحة النفسية في التعليم والإعلام.
“الخطاب العلمي وحده لا يكفي، نحتاج إرادة حكومية لدعم الصحة النفسية، وتوفير مراكز متخصصة، وشبكات دعم مجتمعية، كي لا تبقى هذه المبادرات أصواتًا فردية في صخب الإهمال العام.
أصوات من الواقع… المرضى يتحدثون
خلال تجوالنا في إحدى مناطق بغداد، صادفنا سيف، 22 عامًا، شاب مصاب بمرض الفُصام، يتلقى العلاج منذ عام، لكنه ما زال مترددًا في إعلان حالته.
يقول وهو خائف من جهاز التسجيل الصوتي “الحملة مهمة، تعنيلي هوايه، بس بعدنا نخجل.. الناس ما ترحم، ونظرتهم جارحة. حتى لما نتحسن، يبقون يتعاملون ويه المرض كأنه عار.
ويتابع: “أنا حالتي استقرت تقريبًا، أراجع طبيب وأخذ علاجي بانتظام، بس مستحيل أگدر أحچي بمكان شغلي أو امام أقربائي، يخافوا ويتجنبوني، مرات حتى أصدقاء الطفولة اختفوا بس عرفوا”.
ويختم بنبرة حزينة لكنها متمسكة بالأمل “أتمنى يوم أحد يسمعنا مو كمرضى… يسمعنا كبشر، لأننا ما نطلب شفقة، نريد فرصة نعيش طبيعي، مثل غيرنا”
في أحد أحياء بغداد الهادئة، التقينا أم سارة، امرأة في منتصف الأربعينات تحمل هما مزدوجًا بين رعاية ابنتها المصابة بالفصام، والخوف من نظرة الناس التي لا ترحم. كانت مترددة في الحديث، لكنها ما إن بدأت، حتى تفجر الألم بكلماتها.
تقول ام سارة وهي تتلعثم، “بدأت تظهر على ابنتي أعراض الفُصام قبل عامين، لكنها ما زالت تُخفي الأمر عن أقرب الناس لها، خوفًا من الوصمة”.
وتضيف أم سارة بصوت خافت وحذر “تمنيت أحد يكلّي من البداية إنو هذا المرض مو عيب… بنتي سارة جانت متفوقة، اجتماعية، وبس بدت تتغير ما عرفنا شنو السالفة. صارت تنعزل، تنام هواي، تحجي ويا نفسها، وأنا خفت، مو منها… من الناس”.
ثم تضيف بنبرةٍ خجولة “أخاف أراجع طبيب نفسي وتنكشف السالفة… أخاف الناس تحچي، ويصير اسمها مرتبط بالجنون. بعد كم سنة شراح يصير؟ إذا تقدم إلها أحد؟ منو راح يرضى؟ إحنا بمجتمع ما يرحم”.
وتنهي حديثها بحزن واضح “هاي الحملة مهمة، بس إحنا نحتاج أكثر… نحتاج أحد يطمن الأمهات، يوكف ويانا، يعلّمنا شلون نتصرف”.
واقع هش ومبادرات خجولة
رغم أن أعداد المصابين بالفُصام في العراق بازدياد، إلا أن البنية الصحية النفسية ما تزال ضعيفة ومهملة، عدد الأطباء النفسيين قليل جدًا مقارنة بعدد الحالات، وغالبًا ما تترك العائلات لتواجه المرض بمفردها، دون دعم مؤسسي أو مراكز تأهيل متخصصة.
وإن ظهرت بعض المبادرات التوعوية، فهي ما تزال محدودة التأثير، وتواجَه بجدار من الوصمة الاجتماعية، تلك التي لا تُفرّق بين المرض العقلي والخطر، بل تدمغ المريض بصورة سلبية يصعب محوها حتى بعد التعافي.
هكذا، لا يكون التحدي في العلاج وحده، بل في استعادة مكان المريض داخل مجتمعه، دون خوف ولا خجل.