في قرية ينهكها المرض.. فتاة مقعدة تفتتح مدرسة في غرفتها

ذي قار- مرتضى الحدود
رغم عجزها الكامل وعدم قدرتها على الجلوس أو السير، ورغم أن قدميها لم تطآ يومًا صفًا مدرسيًا، إلا أن وجدان حسن، ابنة الثانية والعشرين، رفضت أن تكون حبيسة الإعاقة واليأس، فاختارت أن تتعلّم ثم تُعلّم.
في قرية صغيرة شمال مدينة الناصرية تُسمّى قرية آل ملال، كانت وجدان عندما قابلناها تفترش سريرها مستندة إلى وسادة، وكانت ملفوفة بعباءتها السوداء تتوسط أطفالًا جلسوا بقربها بعفوية يستمعون إليها وهي تشرح لهم قواعد اللغة العربية والحروف الأبجدية والمعادلات البسيطة من الرياضيات. فهي وجدان، الشابة التي تحوّلت من “طريحة الفراش” إلى “شمعة تُنير درب المعرفة لأطفال قريتها” كما يصفها أهالي القرية.
من العجز إلى الأمل
تقع قرية “آل ملال” شمال محافظة ذي قار، على بعد نحو 12 كيلومتراً من قضاء الشطرة. تعاني القرية من نقص حاد في الخدمات، ويُعدّ معظم سكانها من ذوي البشرة السمراء، وسط بيئة قاسية حوّلتها إلى واحدة من أكثر المناطق المنسية في الجنوب العراقي.
منذ سنوات، حيّرت كثرة الأمراض المنتشرة بين النساء والأطفال الأطباء ومسؤولي الصحة، إذ تنتشر فيها أمراض خطيرة مثل الشلل الرباعي، ضمور الدماغ، والسرطان.
وُلدت وجدان وهي تعاني من تقوّس في ساقيها، ومع تقدّم عمرها تفاقمت حالتها الصحية حتى أصبحت عاجزة تمامًا عن الحركة لا تغادر كرسيها المدولب، فحتى هذا لم يعد مجديًا، فالمدرسة الأقرب عن منزلها تبعد عشرة كيلومترات كاملة في طرق وعرة لا يمكن اجتيازها بسهولة.
لكن وجدان لم تستسلم، وبشغف كبير قررت أن تتعلم من الكتب التي يجلبها أشقاؤها من المدرسة، فبدأت تقرأ معهم صفحة تلو الأخرى حتى أتقنت القراءة والكتابة، وتعلّمت أساسيات اللغة الإنجليزية، وقواعد اللغة العربية، والرياضيات، دون أن يدخل اسمها في سجل مدرسي رسمي.
فصل دراسي في غرفة
لا تحتوي القرية على مدارس قريبة يسهل الوصول إليها، كما أن وعورة الطرق وانتشار الأمراض أعاق الكثير من الأطفال عن التعليم المنتظم. وتشير شهادات سكان القرية إلى ارتباط هذه الأمراض بمخلفات حربية وأسلحة استخدمت في تشييد المنازل بعد قصف أمريكي في 2003، وهو ما يتناقض مع التفسيرات الرسمية التي تُرجع السبب إلى زواج الأقارب.
تقول وجدان للمنصة، ونبرة الألم لا تفارق صوتها: “رغم ما أعيشه من حياة مأساوية بسبب مرضي، فإن حبي للتعلّم لم يفارقني. بدأت بتعلّم الحروف والكلمات حتى استطعت فهم المناهج، والآن أنا أدرّسها”.
وبعد أن شعرت بإتقانها الكامل للمواد الدراسية في المرحلة الابتدائية، قررت أن تُحوّل غرفتها إلى صفٍ صغير، فتحت أبوابه أمام أطفال القرية بعد انتهاء دوامهم الرسمي، لتمنحهم دروس تقوية مجانية في اللغة العربية، والرياضيات، والعلوم، وحتى الإنجليزية.
نافعة وسط القرية
تقول وجدان بفخر: “أصبحت نافعة وسط قريتي. جميع الأطفال الذين يأتون إليّ استفادوا من شرحي، وطريقتي المبسطة جعلتهم يحصلون على درجات عالية”.
في ظل وضعٍ صحّي معقّد وإمكانات محدودة، لم يكن طريق العلاج أمام وجدان ممهّدًا. ورغم خضوعها لعملية جراحية قبل نحو ثمانية أشهر، إلا أنها لم تثمر عن نتائج إيجابية، فقد أصبحت أطرافها السفلية عاجزة عن الحركة تمامًا.
ومع ذلك، لم تنكسر روحها، ولم يتوقّف نشاطها في تعليم الأطفال ودعمهم دراسيًا. تحدّث طلاب وجدان إلى “المنصة” معبّرين عن مستوى التعلّم الذي تلقّوه منها، إذ تقول زينب حسين، طالبة في الصف الخامس الابتدائي: “تعلّمت من وجدان العربي والإنكليزي، ولم أدخل أي دورة تقوية، وكانت تشرح بطريقة تخلي الفهم سهل جدًا”.
وتشير تقديرات إلى أن تكلفة الحصة الخصوصية في العراق تتراوح بين 10 آلاف و50 ألف دينار عراقي للساعة حسب المرحلة الدراسية وخبرة المعلم، وقد ترتفع في المدن الكبرى أو للمواد الصعبة. أما في القرى النائية مثل آل ملال فيصبح تأمين مدرّس خصوصي أمرًا غير قابل للتحقيق وعبئاً مالياً يفوق قدرة غالبية العائلات المحدودة الدخل.
نبأ باسم، إحدى طالبات وجدان، أكدت أن التعليم مع وجدان لا يقتصر على الدروس فقط، بل يشمل القيم والسلوك أيضًا: “تعلّمت منها العلوم، والأخلاق، والتربية الإسلامية. علّمتنا أشياء كثيرة، وكل يوم نستفاد منها أكثر”.
قصص زينب ونبأ ما هي إلا أمثلة صغيرة من تأثير وجدان الكبير في نفوس طلابها، الذين وجدوا فيها قدوة قبل أن تكون معلّمة، وصوتًا للتعليم في قرية نائية غابت عنها الخدمات.
قائدة من قلب المعاناة
صادق عاشور، وجهاء قرية آل ملال، يؤكد أن الجهود التي تبذلها الشابة وجدان حسن في تعليم أطفال القرية لا يمكن أن تُوصف، وأنها “نقطة فارقة في مجتمع يعاني من قلة الخدمات وغياب الدعم التربوي”.
ويكمل حديثه بأن “ما تقوم به لا يمكن وصفه إلا بالإنجاز الإنساني والتربوي. فهي، رغم إعاقتها الجسدية وعدم حصولها على فرصة للدراسة النظامية، تمكّنت من تعليم نفسها، ثم بادرت لتعليم أطفال القرية مواد المرحلة الابتدائية بكل تفانٍ”.
وأضاف أن وجود شخصية مثلها في قرية نائية مثل آل ملال يُعدّ مكسبًا كبيرًا للمجتمع المحلي، حيث خلقت من غرفتها الصغيرة صفًا دراسيًا نابضًا بالحياة، مشيرًا إلى أن أغلب الطلبة اليوم يعتمدون عليها في المراجعة والفهم، دون الحاجة للذهاب إلى دروس خصوصية أو مراكز تقوية.
ويرى عاشور أن أبناء هذه القرية، وتحديدًا وجدان، بحاجة إلى دعم ورعاية حقيقية، سواء من حيث وضعها الصحي أو من خلال تبنّي مبادرتها التربوية، إذ إن الحديث هو عن فتاة ذات إرادة استثنائية يجب ألا تُترك وحدها، بل تُكرّم وتُحتضن رسميًا.
حلم لم ينتهِ
مصدر في تربية ذي قار بيّن أن الأمل لا يزال يرافق وجدان في تحقيق حلمها بإكمال مسيرتها التعليمية. فبحسب نظام محو الأمية، تستطيع خوض الامتحان المخصص للحصول على شهادة تعادل الصف الرابع الابتدائي، ما يفتح أمامها الباب للتقديم إلى الامتحان الخارجي للصف السادس الابتدائي.
“في حال اجتيازه، يمكنها بعد عام واحد التقدّم للامتحان الخارجي للصف الثالث المتوسط، ومن ثم للصف السادس الإعدادي، وبهذا المسار، يصبح بإمكانها التقديم إلى أي جامعة تختارها، محققة بذلك طموحها العلمي رغم كل التحديات” يقول المصدر.
في قرية تعاني من عزلة صحية وتعليمية كهذه، تتحوّل مبادرة فردية كتجربة وجدان إلى نقطة تحول، ويراها أهالي “آل ملال” نموذجاً لقوة الإرادة في وجه التهميش.
يؤكد صادق عاشور، أحد وجهاء القرية، أن ما تفعله وجدان “ليس فقط جهداً تعليمياً، بل عملاً إنسانياً يستحق الدعم الرسمي والرعاية المستمرة، في منطقة ما زالت تنتظر الاعتراف بوجعها وتنفيذ الوعود القديمة قبل إطلاق أي وعود جديدة”.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)