بين الجامعة والأهوار: رحلة امرأة عراقية في مواجهة أزمة المناخ

ذي قار- مرتضى الحدود
لم تقبل منار ماجد أن تُحاصر داخل جدران القاعات التدريسية، ولم ترَ في الكتب والمراجع نهايةً لطموحها. كانت تسعى دائمًا لما هو أبعد، “نحو ميادين تلامس وجع الناس وصوت النساء وصرخة الأهوار الجافة” على حد تعبيرها.
ابنة محافظة ذي قار، لم تكتفِ بمقاعد الدراسة ولا بجدران القاعات الأكاديمية، بل اختارت أن تكون وجهًا ميدانيًا للتغير المناخي وتنطق بلسان المتأثرين به.
اعتادت منار منذ صغرها التفوق في صفوفها، لكن طموحها لم يتوقف عند العلامات العليا، بل تجاوزها نحو التميز الحقيقي، مدفوعة بدعم عائلي لم ينقطع، فتخرّجت في كلية التربية – قسم الجغرافيا بجامعة ذي قار بتقدير عالٍ عام 2014-2015، وما إن شرعت بمسار الدراسات العليا وأكملت سنتها الأولى، حتى جاء تعيينها في الجامعة، ليجبرها على تأجيل دراسة الماجستير لعامين، امتثالًا لشرط وظيفي فرض عليها الانتظار.
استثمرت منار فترة الانتظار بالقراءة والعمل، ثم عادت بشغف أكبر. قدمت 18 عنوانًا بحثيًا ونالت الموافقة على دراستها حول المشكلات البيئية الحضرية والسكن العشوائي في قضاء الرفاعي، وهي دراسة ميدانية دفعت أحد أساتذتها للقول: “أنتِ لم تتركي شيئًا للباحثين بعدك”.
تقول للمنصة: “لا أريد أن أكون شخصًا نمطيًا يهتم بالجانب الأكاديمي فقط، لذلك دخلت دورات تدريب المدربين (TOT)، والتي شكلت نقطة تحول في حياتي، حيث خرجت من دائرة الجامعة إلى المجتمع، وأصبحت أعمل ميدانيًا مع النساء في ورش ومحاضرات وندوات علمية”.
في كل محطة لم تكن منار مجرد محاضِرة، بل “كانت اكاديمية ملهمة وصوتًا نسائيًا في مواجهة التحديات البيئية، ولسان حال مجتمع يعاني من آثار تغيّرات المناخ وقلة الوعي البيئي” على حد وصف هبة صلاح الدين، إحدى طالباتها.
في عمر 34 عامًا، لا تُعرف منار ماجد كأستاذة جامعية فقط، بل كـ”امرأة المناخ” في ذي قار. استطاعت أن توصل العلم إلى الناس، وأن تربط المعرفة بالواقع، والقلم بالميدان.
تقول: “أشعر أن ما أحمله من علم ليس لي وحدي، بل هو لسان حال مئات المتأثرين بالتغيّرات المناخية القاسية”.
ذي قار، وفق إحصاءات رسمية، فقدت نحو 680 ألف دونم من أراضيها الصالحة للزراعة خلال العقدين الماضيين بسبب التصحر. كما أدت أزمة المياه إلى نزوح أكثر من 10,300 عائلة خلال السنوات الخمس الماضية، بحسب دائرة الهجرة والمهجرين في المحافظة.
تضيف منار “منذ تسع سنوات لم أتوقف، أنجزت 8 بحوث علمية نُشرت في مجلات عربية وأجنبية، وأعمل حاليًا على كتابين متخصصين في الشأن البيئي، لأنني أنتمي لهذه البيئة، وأعرف أهميتها وفرادتها”.
لم تكتفِ منار بالمجال الأكاديمي، بل حملت أبحاثها إلى الأهوار، على القوارب وبين الجزر العائمة، تحت شمس حارقة ورطوبة خانقة، بحثًا عن الحقيقة في عمق الماء والقصب. لم تكن مغامرة، بل التزامًا بأن يكون لعملها أثر حقيقي على الأرض، خصوصًا بين النساء.
من خلال عضويتها في مجلس حماية وتحسين البيئة بالمحافظة، عملت على الدعوة للحفاظ على هذا المكون المائي الحيوي. وقد أظهرت تقارير المنظمة الدولية للهجرة (IOM) أن نقص المياه وتراجع الموارد الطبيعية تسببا في نزوح أكثر من 21,798 عائلة بين 2018 و2023 في عدد من المحافظات العراقية، منها ذي قار.
تقول منار: “لا أريد أن أكون تكرارًا لأفكار متداولة. أفكر دائمًا خارج الصندوق، وأريد أن يصل صوت النساء إلى العالم”. فالحديث عن التلوث والجفاف لا يكفي برأيها، بل “يجب ربط البيئة بتمكين النساء” معتبرة أن التغيير لا يكتمل إلا بوجود المرأة في موقع القرار لا كمجرد متلقٍ له.
يقول الدكتور علي العتابي، أستاذ في جامعة سومر: “المجال البيئي من التخصصات الصعبة، وعدد النساء فيه قليل. من بين النماذج القليلة التي اختُرقت هذا المجال، تبرز منار كأول امرأة تعمل في الحقل البيئي في ذي قار. أثبتت كفاءتها من خلال عملها الميداني ومساهماتها العلمية”.
ويرى العتابي أن الجانب البيئي ليس فقط علميًا بل إنساني، إذ تسهم منار في مساعدة الأهالي عبر ورش تدريبية للتأقلم مع التغيرات المناخية، وهي صوت دفاع عن معاناة الأهوار.
في كل ورشة ومحاضرة، تصرّ منار على أن المرأة قادرة على القيادة. لم تكتفِ بالكلام، بل دعمت مئات النساء ودربتهن ليأخذن أدوارهن بجرأة وثقة، وسط واقع يتطلب شجاعة استثنائية.
انضمت إلى شبكة النساء العراقيات لتوسيع تأثيرها، وتسليط الضوء على قضايا النساء ليس فقط كمواضيع بحث، بل كجزء من كيانها، من معاناتها، ومن رؤيتها لمجتمع أكثر عدالة.
بالنسبة لمنار، فإن “التمكين لا يعني فقط فتح الأبواب، بل زرع الإيمان في قلوب النساء بأنهن قادرات على تغيير العالم، تمامًا كما يغيّر المناخ وجه الحياة”.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)