مشتلٍ مجاني.. يحارب التصحر ويوقظ الوعي

مهدي غريب – بغداد
في مدنٍ أنهكها الغبار، حيث صارت الأشجار عملة نادرة، يظهر رجل ستيني يحمل فأسه في يد ونبتة صغيرة بالأخرى، يطوف الشوارع وكأنه يسقي الأرض أملاً.
كريم الخزرجي، المعروف بـ”أبو مريم”، لا يبيع الشتلات ولا يتاجر بالخُضرة، بل يزرعها ويوزعها مجاناً على من يرغب، إيماناً منه أن الزراعة ليست مهنة، بل رسالة.
مشتلٌ من أجل الحياة
أنشأ كريم مشتلًا متواضعا في احدى جوامع العاصمة، يزرع فيه أشجاراً ونباتات ظل وثمار وزينة، لكن ما يميز هذا المكان أن كل شتلة فيه مجانية تماماً، بشرط واحد فقط “ازرعها بصدق، وخليها تعيش”، كما يقول أبو مريم.
يقصد المشتل شبان وكبار سن، طلاب مدارس وأصحاب مطاعم ومحال، وكل من يهتم ببيئته، يمنحهم كريم ما يحتاجون من شتلات دون مقابل، مشجعاً إياهم على التغيير ولو بخطوة صغيرة، مؤمنا أن الشجرة الواحدة قد تكون بداية لغابة.
حملات تطوعية
لم يكتفِ أبو مريم بالمشتل، بل أطلق حملات تطوعية لزراعة أكثر من 500 شجرة في مناطق متفرقة من المدينة، شملت مداخل المستشفيات واجهات المدارس و قرب المطاعم والأماكن العامة والشوارع الصحراوية والجزرات الوسطية.
وكان هدفه الأساسي توعية الناس بأهمية الزراعة، وتجميل الفضاءات التي أهملتها البلديات، خاصة في ظل ضعف الدعم الرسمي للمبادرات البيئية الحقيقية.
ويشهد العراق أزمة بيئية معقدة، أبرزها التصحر الذي يزحف على أكثر من 40% من أراضيه، إضافة إلى تراجع منسوب الأنهار ونقص المياه الذي أضعف الزراعة ودفع كثيرين لهجر أراضيهم، هذه التحديات جعلت البيئة أكثر هشاشة، وفتحت الباب لمزيد من التدهور.
في الوقت نفسه، تتكرر العواصف الترابية وترتفع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق، بينما يتراجع الغطاء النباتي بسبب الحروب والإهمال، هذا الواقع جعل المدن تختنق بالغبار والتلوث، ورفع معدلات الأمراض التنفسية. وسط هذا المشهد، تبرز مبادرات فردية مثل مبادرة كريم الخزرجي كمحاولات صادقة لإعادة التوازن، وتعزيز ثقافة التشجير من داخل المجتمع نفسه.
الزراعة ليست ترفًا
يؤمن أبو مريم أن الشجرة ليست مجرد منظر، بل عنصر أساسي في تحسين جودة الحياة، ويقول: “الشجرة تمتص الغبار، وتقلل ثاني أكسيد الكربون، وتخفف الحرارة.. يعني مثل المكيف الطبيعي” كما أنها تُعيد الروح للمكان، وتفتح باب الحوار بين الناس عن مسؤوليتهم تجاه بيئتهم.
لهذا السبب، يصرّ على جعل مشروعه متاحاً للجميع، ويشجع كل شخص على زراعة ولو شجرة واحدة أمام بيته أو في مدرسته أو امام محله.
ورغم أن أبو مريم يعمل دون أي تمويل حكومي أو دعم مؤسسي، إلا أن مشتله بات معروفاً، ومصدراً للإلهام بين ناشطي البيئة والمهتمين بالزراعة حيث يقضي أبو مريم معظم وقته في العناية بالنباتات وترتيب الأشجار وتعبئة الأتربة وتجهيز الشتلات الجديدة للتوزيع.
يقول بحسرة: “الدولة ما تهتم كلش، بس هذا مو عذر.. كل واحد يگدر يغير بشي بسيط، وأنا هذا اللي بيدي”.
حلم أخضر
يحلم كريم بإنشاء حديقة عامة تطوعية، تُدار من قبل شباب متطوعين، وتُروى بمياه الصرف المعالجة، تكون مركزاً للتدريب على الزراعة وتوزيع الأشجار كما يأمل أن تتحول مدينته إلى نموذج في التشجير المدني، حيث لا تكون الزراعة مسؤولية الدولة وحدها، بل واجباً جماعياً.
في نهاية كل يوم، يضع كريم فأسه جانبًا، يسقي شتلة جديدة، ويبتسم. وحين يُسأل عن سبب إصراره رغم كبر سنه وقلّة الموارد، يُجيب ببساطة “الناس تزرع لِتعيش.. وأنا أزرع لأنّي أريد أخلي الحياة تعيش بينّا من جديد”.