“ريوككم علينا”.. مبادرة إنسانية تقدم الطعام مجاناً لطلاب السادس الإعدادي

مهدي غريب- بغداد
في ساعةٍ مبكرة من صباح كل يوم، قبل أن تشرق شمس بغداد، يكون سجاد الكعبي قد جهز “الميز” أمام مدخل الجامعة المستنصرية. طاولة بسيطة عليها إبريق شاي يغلي بهدوء، وصوانٍ من الكعك و”السياح” الخبز الجنوبي المعروف بطعمه الحلو وأكواب مرتبة بعناية.
يبدأ سجاد الكعبي وهو صاحب مبادرة “ريوكم علينا” بتوزيع الفطور على طلاب السادس الاعدادي ، مع ابتسامة وكلمات تشجيعية تبث الطمأنينة في قلوبهم.
سجاد الكعبي، ابن الـ30 عاماً، أطلق مبادرته هذه تحت عنوان “ريوككم علينا” كمبادرة شبابية تطوعية بسيطة في ظاهرها، لكنها أثرها كبير بحسب المستفيدين منها، خاصة خلال موسم الامتحانات الوزارية.
في كل صباح، يجهّز سجاد الشاي والكعك والسياح، ويبدأ باستقبال الطلبة قبل دخولهم إلى قاعات الامتحان، يمد لهم كوبًا من الشاي الحار وكلمة طيبة، فيها تلميح سريع عن فقرة دراسية، أو دعاء بالنجاح، أو حتى جملة تشجيعية تزيل بعض التوتر المتراكم.
يتحدث سجاد عن بداية فكرته قائلاً “چنت أشوف طلاب واكفين، عيونهم مليانة قلق، وجوههم تعبانة، تذكرت أيام دراستي، وگلت بنفسي شنو المانع أسوي شي بسيط يخفف عنهم؟ مو شرط يكون شي چبير، بس ريوك وگلب طيب”.
فكرة “الريوك” (أو وجبة الفطور كما تسمى في الدارجة العراقية) لم تكن عشوائية. سجاد اختار “السياح” والكعك بعناية لأنهما من المأكولات الشعبية المحببة التي لا تُثقل المعدة، لكنها تمنح طاقة كافية لبداية اليوم. أما الشاي، فهو عنصر أساسي في صباح العراقيين، ووجوده يجعل المكان مألوفاً ودافئاً.
حول طاولته، تتجمع يومياً وجوه مختلفة من الطلاب، بعضهم يأتي وحيداً، وبعضهم مع أصدقائه. منهم من يكتفي بكوب شاي صامت، ومنهم من يفتح قلبه لسجاد لبضع دقائق قبل الدخول إلى الامتحان.
علي، طالب في القسم الأدبي، يقول “أول مرة مريت من يمه، استغربت، گلت شنو هذا؟ بعدين شربت الشاي، وسمعت كلمتين من سجاد، حسّيت براحة مو بس طعام، هو يشجعنا، يذكرنا بنقاط مهمة، ويخلينا نضحك”.
حسين، طالب في القسم العلمي، يؤكد أن المبادرة ساعدته كثيراً في كسر حاجز الخوف “المكان صار مثل محطة طاقة، أجي أشرب شاي وأسمع منه شغلات عن المادة، مثل تلميحات أو ملاحظات مهمة، كأنه أستاذ بطريقة ثانية، بس بدون توتر”.
أما مصطفى، فيقول إن المبادرة أعطته شعوراً بالاهتمام والإنسانية كأن “أكو أحد دا يگلي أنت مو وحدك، أكو ناس وياك، هذا الدعم النفسي اللي نفتقده بالمناهج والبيوت”.
سجاد لا يملك تمويلاً كبيراً، بل يعتمد على مدخراته الشخصية، لكنه لا يسمح لأي صعوبة أن توقفه. “أنا مؤمن إنو إذا ننتظر التمويل والدعم، راح نضيع الوقت، فقررت أبدي بما عندي، والله كريم”.
لم تكن الطاولة التي أعدّها سجاد مخصصة للطلاب فقط، بل تحوّلت مع الوقت إلى مساحة تجمعهم مع أولياء أمورهم، فمع ساعات الصباح الأولى، بدأ بعض الآباء يرافقون أبناءهم إلى باب الجامعة، وجلسوا معهم يتناولون الشاي والكعك والسياح، وكأن هذه اللحظات المشتركة تحمل ما هو أكبر من فطور بسيط.
وبينما يستمر سجاد في تقديم الشاي بهدوء، تحولت مبادرته إلى مشهد إنساني متكامل، يجمع بين الطلاب وأولياء الأمور في لحظة دفء وتضامن، تنسج خيوط الأمل وسط أجواء الامتحانات الصعبة.
ومع تزايد أعداد الطلاب الذين يستفيدون من المبادرة، بدأ سجاد يفكر في توسيع نطاق عمله ليشمل المزيد من الجامعات والمدارس في بغداد والمحافظات المجاورة. يرى أن الدعم النفسي لا يقل أهمية عن الدعم المادي، وأن توفير بيئة محفزة ومشجعة قبل الامتحانات يمكن أن يساهم بشكل كبير في تحسين نتائج الطلاب. ولذلك، بدأ في التشاور مع عدد من الناشطين الشباب لتشكيل فريق صغير يساعده في تنفيذ هذه الفكرة على نطاق أوسع.
بالإضافة إلى ذلك، يسعى سجاد إلى توثيق تجربته وتجارب الطلاب الذين شاركوا في المبادرة من خلال تسجيل قصص نجاحهم وتأثير المبادرة عليهم، ليكون ذلك مادة تحفيزية تُشجع الآخرين على المبادرة بأفعال مشابهة.
ويؤكد أنه بالرغم من كل التحديات التي تواجهه، فإن رؤيته تظل واضحة، وهي أن يبدأ بأي خطوة صغيرة تصنع فرقًا، لأن التغيير الحقيقي يبدأ من المبادرات الإنسانية المتواضعة.
وفي ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها العراق، تُعد مبادرات ممن هذا النوع ليست فقط فطوراً مجانياً، بل هي رسالة حب ودعم تنبعث من قلب شاب يؤمن بأن الجميع يستحقون فرصة أفضل.
وهكذا، لا تقتصر “ريوككم علينا” على تقديم فطور بسيط، بل هي رسالة إنسانية تبعث بالراحة والطمأنينة في نفوس الكثيرين، وتُذكرنا أن أفعال الخير الصغيرة قادرة على صنع الفارق.