بين الرفوف القديمة… حكاية مكتبة آل حيدر في الناصرية

ذي قار- مرتضى الحدود
في جنوب الناصرية، وتحديدًا في قضاء سوق الشيوخ، تقف مكتبة آل حيدر كأحد المعالم الثقافية القديمة في المدينة. عند الدخول إليها، تفوح رائحة الورق العتيق من البرقيات الصفراء التي ما زالت تحتفظ بحبر كتّاب رحلوا منذ زمن.
على الجدران الصامتة تتكئ رفوف خشبية تحمل آلاف الكتب، فيما يحاول وميض جميل الحيدر الحفاظ على إرث والده الذي تحوّل إلى وقفٍ علميّ مفتوح أمام الباحثين وسكان المدينة.

بدأت قصة المكتبة في أربعينيات القرن الماضي، حين كان جميل الحيدر، المؤسس، يجمع الكتب المتناثرة كما يجمع المزارع البذور. وبمرور السنين، تحوّل هذا الشغف إلى مكتبة متكاملة، وفي عام 1973 أصبحت منظّمة ومبوّبة، تضم كتبًا في اللغة والتفسير والتاريخ والدراسات والأدب والشعر والسياسة.

اليوم يجلس وميض، نجل المؤسس، وسط رفوف الكتب القديمة، يطالع مجلدًا يعود عمره لعقود، ويحدّث “المنصّة” عن تاريخ المكتبة وعدد كتبها وآلية حفظها. يقول: “إن هذه المكتبة ضمّت حتى الآن ما بين 2000 إلى 3000 كتاب، فضلًا عن الوثائق والبرقيات التي تتحدث عن حقبةٍ مهمة من تاريخ العراق تعود إلى عشرينيات القرن الماضي”.

المكتبة ليست متحفًا مغلقًا على الماضي، بل ما تزال تؤدي دورها كمكان للقراءة والبحث، يقصده يوميًا طلاب الجامعات والمدارس وبعض الأهالي. فهي، كما يقول وميض، “ملتقى للمعرفة ومكان يجمع القرّاء والأصدقاء، وحاضنة للعقول الشغوفة”.

من بين مقتنيات المكتبة برقياتٌ تاريخية نادرة. يقول وميض: “تعود بعضها إلى عام 1914 إبّان دخول الإنكليز إلى العراق، وتوثّق مراسلاتٍ بين السيد محمد سعيد الحبوبي والشيخ صالح الحلي وغيرهم من الشخصيات التي كانت تحشد الناس ضد الاحتلال. وأقدم كتبها يعود إلى عام 1940، مثل ديوان حيدر الحلي وكتاب الغدير”.

ولم تكن المكتبة بعيدة عن الحركة الثقافية في المدينة، فقد زارها وارتادها شعراء وعلماء بارزون مثل “مصطفى جمال الدين، والسيد عدنان البكّاء عميد كلية الفقه، والشاعر اللبناني علي بدر الدين الذي استُشهد في معارك جنوب لبنان عام 1982”.
الطالب أحمد حسين من كلية الآداب يتحدث عن تجربته قائلاً: “عرفت عن هذه المكتبة منذ سنوات دراستي الأولى، إذ كنت أبحث عن مصادر لبحثي حول التاريخ الاجتماعي، فوجدت فيها كنوزًا من الوثائق والكتب النادرة. كان القائمون عليها يساعدونني دائمًا في الوصول إلى العناوين الصعبة، ويشرحون لنا كيفية التعامل مع المصادر القديمة. بالنسبة إليّ، المكتبة ليست مجرد مكان للمطالعة، بل مختبر للبحث العلمي الحقيقي”.

أما أحمد كاظم، الطالب في الإعدادية، فيقول: “كنت أزور مكتبة آل حيدر باستمرار خلال سنوات دراستي، وخصوصًا عند إعداد بعض البحوث الدراسية. لم أجد مكانًا آخر يحتوي على هذا الكمّ من الكتب القديمة التي لا توجد في المكتبات العامة. كنت أشعر أنني أعيش داخل التاريخ، فكل كتابٍ هنا يحمل توقيع زمنٍ مضى، ومع ذلك يقدم لي مادة علمية لا غنى عنها”.

وتروي زينب عبد الأمير، طالبة في كلية الآداب، تجربتها مع المكتبة: “هذه المكتبة بالنسبة إليّ نافذة على عالمٍ لم أره. وجدت فيها مراجع نادرة عن الأدب العراقي الحديث ساعدتني كثيرًا في دراستي. والأجمل أنها ليست مكتبة جامدة، بل مكان للقاء الأصدقاء والمناقشات الفكرية. أحيانًا كنت أشعر أنني أدخل بيت عائلة ثانية، حيث يستقبلنا وميض بابتسامة، ويحدثنا عن تاريخ الكتب وكأنها جزء من حياته اليومية”.

المعتمد الصالح، أحد مرتادي المكتبة منذ سنوات، يرى فيها جزءًا من ذاكرة المدينة: “حين أدخل مكتبة آل حيدر، أشعر أنني أخطو إلى قلب تاريخ الناصرية نفسه. هذه ليست مكتبة عادية، إنها جزء من وجدان المدينة وذاكرتها. كل رفٍ فيها يحكي عن حقبة، وكل كتاب شاهد على زمنٍ مضى. حتى رائحة الورق فيها تختلف، كأنها رائحة طفولة هذه المدينة”.
ويضيف الصالح: “مكتبة جميل آل حيدر كانت مختلفة، فيها مراجع نادرة ووثائق قديمة لا توجد في أماكن أخرى. لم تكن المكتبة مجرد مكانٍ للمطالعة، بل فضاء للحوار والالتقاء، نناقش فيها أفكارنا ونغوص في تاريخ العراق الحديث”.

ويقلب الصالح إحدى البرقيات القديمة قائلاً: “هذه البرقيات والوثائق ليست أوراقًا صامتة، إنها شهادات حيّة على نضال أبناء هذه المدينة ضد الاحتلال البريطاني عام 1914. مراسلاتٌ تاريخية لا تجد مثلها في أي مكانٍ آخر”.

ويشير إلى أن المكتبة التي أسسها جميل آل حيدر في أربعينيات القرن الماضي تحوّلت مع الوقت إلى رمزٍ ثقافي، قائلاً: “أرى في مكتبة آل حيدر وقفًا معرفيًا لا يخصّ العائلة وحدها، بل المدينة بأسرها. هي اليوم مخزن لذاكرةٍ جماعية، ومنارةٌ لكل طالبٍ وباحث، ومكان يصنع الانتماء الحقيقي للماضي والمعرفة”.

مكتبة آل حيدر ليست مجرد إرثٍ عائلي، بل ذاكرة مدينة، وفضاء ثقافي يحافظ على صلة الجيل الجديد بتراثه. بين رفوفٍ غطاها الغبار وأوراقٍ تشهد على قرنٍ من القراءة، ما زالت المكتبة تؤدي دورها في الحفاظ على المعرفة، وتربط الماضي بالحاضر كواحةٍ هادئة للعلم والثقافة في قلب الناصرية.



