حنان الربيعي تحول السياحة إلى نافذة أمل لذوي الهمم

فاطمة كريم – بغداد
في قلب بغداد، داخل أروقة هيئة السياحة والآثار، اختارت سيدة عراقية أن تجعل من موقعها الوظيفي وسيلة للتغيير لا مجرد منصب إداري. حنان الربيعي، ذات الخامسة والأربعين عامًا، وجدت في السياحة بابًا لخدمة ذوي الهمم وتمكينهم من دخول الحياة العامة بثقة وكرامة.

منذ سنواتها الأولى في العمل الحكومي، تولت الربيعي مناصب متعددة، وكانت حريصة على تطوير كل دائرة تتولى مسؤوليتها. ومع مرور الوقت، أدركت أن موقعها الإداري يمكن أن يكون أداة لإحداث فرق حقيقي.
تقول: “كنت أؤمن أن المناصب لا تُقاس بالرواتب أو المكاتب الفخمة، بل بقدرتنا على أن نُحدث فرقاً في حياة الناس، خصوصاً من تم تهميشهم أو نسيانهم”.
في عام 2023 قررت الربيعي أن تبدأ مشروعها الإنساني الخاص تحت عنوان “تأهيل ذوي الهمم في القطاع السياحي”، ليكون الأول من نوعه في العراق. هدف المشروع إلى تدريب الأشخاص من ذوي الإعاقات المختلفة وتمكينهم من دخول سوق العمل السياحي، وهو قطاع ظل مغلقًا تقريبًا أمام هذه الفئة.
ويعد قطاع السياحة في العراق من القطاعات المهملة رغم إمكاناته الكبيرة. فالحروب المتتالية والوضع الأمني والسياسي قلّصا من دوره الاقتصادي والاجتماعي. ومع ذلك، بدأت في السنوات الأخيرة محاولات محدودة لإحياء السياحة الداخلية وربطها بالمجتمع المحلي، وهو ما يضفي على مبادرة الربيعي طابعًا استثنائيًا.
في عامه الأول، نجح المشروع في تدريب أكثر من سبعين مشاركًا من فئات مختلفة من قصار القامة، والصمّ، والبكم، وذوي الإعاقة الحركية، والمصابين بمتلازمة داون، فوفّرت الربيعي للمشاركين المعدات الفنية واللوجستية، لتبدأ معهم رحلة جديدة من التعلم والاكتشاف.
تقول: “كنت أشعر أن كل خطوة نخطوها معهم كانت إنجازًا مضاعفًا. لم يكن الأمر مجرد تدريب، بل بناء ثقة وكرامة وحق في الحياة”.

لم تكتفِ الربيعي بتعليمهم أساسيات السياحة، بل ركّزت على تطوير مهارات رقمية حديثة تساعدهم على العمل المستقل، فدربتهم على استخدام الهاتف الذكي وبرامج التصميم والمونتاج والتصوير.
وتقول: “بدأنا من الصفر. بعضهم لم يكن يعرف كيف يستخدم الهاتف، وبعد أيام أصبحوا يصنعون محتوى رقميًا احترافيًا عن المواقع السياحية في بغداد”.
ورغم أن ذوي الهمم يشكّلون شريحة واسعة في المجتمع العراقي، إلا أنهم ما زالوا يواجهون تحديات قاسية في الحصول على فرص عمل عادلة تضمن لهم حياة كريمة. وغالبًا ما يُنظر إليهم باعتبارهم غير قادرين على الإنتاج، فتُغلق أمامهم الأبواب ويُتركون على هامش المجتمع.
وفقًا لتقارير وزارة العمل العراقية، ما يزال التدريب المهني للأشخاص ذوي الإعاقة محدودًا جدًا، وغالبًا ما يتركز في مجالات تقليدية مثل الحرف اليدوية أو الصناعات الصغيرة، لذا يعد مشروع الربيعي من المشاريع القليلة التي تفتح أمام هذه الفئة مجالات غير مألوفة مثل السياحة والإعلام الرقمي.

لم يمض وقت طويل حتى شاركت الربيعي مشروعها في مسابقة وطنية أطلقتها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، فحصل مشروعها على المركز الأول لكونه الأكثر إنسانية في خدمة ذوي الهمم، ودعمت الوزارة المشروع رسميًا ووفرت له احتياجاته لتوسيع نطاقه إلى محافظات أخرى.
من هنا بدأت المرحلة الثانية، تضيف الربيعي، حيث توسعت الورش إلى محافظتي النجف والمثنى، واستطاعت تدريب نحو 150 مشتركًا جديدًا بإشراف مدربين مختصين قادرين على التواصل مع المتدربين بلغتهم وطريقتهم الخاصة.
تقول حنان: “توسعنا يعني أننا نزرع الأمل في أماكن جديدة، نفتح أبوابًا كانت مغلقة، ونمنح ذوي الهمم فرصة ليكونوا فاعلين في المجتمع لا مجرد متلقين للدعم”.
ولم تقتصر النتائج على التدريب فقط، بل أصبح المتدربون ينفذون بأنفسهم برامج سياحية متكاملة على أرض الواقع. كانت تلك لحظة الانتصار الكبرى بالنسبة لحنان. تتحدث بعينين يملؤهما الفخر: “أن ترى من دربتهم ينظمون جولات سياحية حقيقية من الفكرة إلى التنفيذ، هذا هو الإنجاز الحقيقي”.
ووفق خبراء في قطاع السياحة العراقي، فإن دمج ذوي الهمم في الأنشطة السياحية يمكن أن يسهم في تعزيز السياحة المجتمعية وتحسين صورة العراق عالميًا، عبر إظهار نماذج نجاح وإنسانية من داخل المجتمع نفسه.
هبة صلاح كانت واحدة من القصص التي أثرت في الربيعي بشكل خاص. هبة سيدة في الثلاثين من عمرها، مصابة بمتلازمة داون وتعيش مع والدتها. تقول هبة بابتسامة واسعة: “أمي هي التي أخذتني إلى ست حنان حتى أدخل الورشة، أنا أحبها جدًا، هي مدربتي ومعلمتي وأمي الثانية”.

تتحدث الربيعي عنها قائلة: “من أول يوم دخلت فيه الورشة وأنا متفائلة بهبة. كانت مليئة بالطاقة والإصرار، وبعد انتهاء التدريب تمكنت من الحصول على وظيفة في قسم العلاقات العامة بإحدى الشركات السياحية، وكانت هذه لحظة فخر حقيقية لي”.
أما والدتها، السيدة سعاد غضبان، فتقول: “هبة منذ صغرها ذكية وشغوفة، تتفوق على إخوتها أحيانًا، لكنها بعد الورشة تغيرت كليًا. أصبحت أكثر ثقة، تحب عملها، وتستيقظ باكرًا لتذهب إلى الشركة بابتسامة”.
اختلفت حياة هبة كليًا بعد دخولها الورشة وحصولها على فرصة عمل. فإدماجها داخل المجتمع جعلها أكثر حبًا للحياة، وغيّر حتى المزاج النفسي لعائلتها. تقول والدتها: “دخلت فرحة مختلفة إلى المنزل. أصبح البيت أكثر راحة حين نرى سعادة هبة، جميعنا نسعد”.
لا توجد في العراق إحصاءات رسمية دقيقة حول عدد الأشخاص ذوي الإعاقة. لكن تقريرًا لمنظمة هيومن رايتس ووتش يشير إلى أن العراق يضم نحو ثلاثة ملايين شخص من أصحاب الإعاقة عمومًا.
ونص القانون العراقي على تخصيص نسبة معينة من الوظائف العامة لأصحاب الإعاقة، 5٪ في القطاع العام و3٪ في القطاع الخاص، غير أن هذه النسب لم تُطبّق فعليًا بعد.
في المقابل، تبرز قصة أخرى للتوأم زينب وفاطمة حيدر، وهما من قصار القامة في السابعة والعشرين من عمرهما. دخلتا الورشة معًا بعد بحث طويل عن فرصة عمل.

تجيد زينب التصوير، ولديها حساب على مواقع التواصل الاجتماعي تنشر فيه يومياتها بلقطات بسيطة وتحلم بأن تصبح مصورة محترفة. تقول: “واجهنا الكثير من التنمر والعنصرية بسبب قصر قامتنا، لم نجد أي عمل يمكن أن يقبلنا، لكن الورشة منحتنا الثقة لنبدأ من جديد”.
أما فاطمة، فتقول بحماس عن حبها للسياحة: “أحب الأماكن الأثرية وأزور المواقع القديمة في بغداد. الورشة علمتني كيف أروج لهذه الأماكن بشكل صحيح وكيف أعمل ضمن فريق. صرت أفكر بطريقة مختلفة وأتعامل مع الناس بثقة، حتى التنمر الذي كنت أخاف منه لم يعد يخيفني”.
اليوم أصبح مشروع الربيعي نموذجًا يُحتذى به في تمكين ذوي الهمم داخل العراق. توسعت الورش إلى محافظات جديدة، وأصبح المشاركون ينفذون جولات وبرامج سياحية بأنفسهم، من إعدادهم وتنظيمهم الكامل.

المبادرات التي تدمج ذوي الهمم في قطاعات غير تقليدية مثل السياحة أو الإعلام تُعتبر جزءًا من موجة عالمية تُعرف بـ “الاقتصاد الشامل” الذي يسعى لدمج جميع فئات المجتمع في سوق العمل، وتطبيق هذا المفهوم في السياق العراقي يمثل خطوة متقدمة ونادرة.
تقول الربيعي: “قد لا أستطيع أن أجد وظيفة لكل شخص دربته، لكن يكفيني أن أترك في داخله مهارة تؤهله ليعيش باستقلالية. أنا ووزارة العمل وهيئة السياحة نعمل لهدف واحد، وهو خدمة هذه الشريحة وتوفير ما تحتاجه للاندماج في المجتمع دون تمييز”.
وتختم وهي تتحدث بعين يملؤها الأمل: “طموحي ما يتوقف، أريد أن أرى هذا المشروع في كل محافظة عراقية. أريد أن يكون ذوو الهمم جزءًا من مشهدنا السياحي، يصممون الجولات ويقودونها، يعيشون بشغف وكرامة مثل أي إنسان آخر”.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)



