الانتخابات البرلمانية العراقية.. سباق على الشاشات لا في الساحات

مهدي غريب – بغداد

لم تعد المنافسة الانتخابية في العراق هذا العام مقتصرة على الخطابات والمناظرات، بل امتدت إلى الشوارع والساحات العامة، حيث تضيء شاشات إلكترونية ضخمة تحمل صور المرشحين وشعاراتهم الانتخابية، في مشهدٍ غير مألوف يعكس التحول الكبير الذي يشهده سوق الإعلانات خلال موسم الانتخابات الحالي.

في شارع السعدون، يقف حسين علي، عامل في محلٍّ لبيع وتركيب الشاشات، ليقول إن الطلب هذا الموسم “فاق كل التوقعات”، مضيفًا أن “معظم المرشحين باتوا يفضلون الإعلان عبر الشاشات الإلكترونية بدل الفلكسات الورقية”.

ويشير إلى أن “الإقبال كبير جداً لدرجة أننا نعمل حتى ساعات متأخرة من الليل لتلبية الطلبات، لكن الأسعار ارتفعت كثيرًا، فالشاشة التي تبلغ أربعة في خمسة أمتار يصل سعرها إلى نحو عشرين مليون دينار، ومع ذلك بعض المرشحين يشترون أكثر من شاشة واحدة لوضعها في مواقع مختلفة”. ويرى حسين أن هذا “السباق الضوئي” تجاوز المعقول، “لأن التكلفة عالية جداً، لكن الكل يريد أن يظهر بأكبر شاشة ممكنة لجذب انتباه الناخبين”.

في المقابل، يوضح جاسم، وهو صاحب ورشة طباعة في الكرادة، أن الفليكسات التي كانت تملأ الشوارع في انتخابات 2005 و2010 وحتى 2021 لم تعد تهيمن على المشهد كما في السابق، قائلاً: “الناس أصبحت تميل للتقنيات الحديثة، والشاشات الضوئية جذبت معظم الزبائن من المرشحين. ومع ذلك، هناك من لا يزال يطلب الفلكسات لأنها أرخص وتصل إلى المناطق الشعبية بسهولة، لكنها فقدت تأثيرها السابق”.

تجري الانتخابات البرلمانية العراقية المقررة في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 وسط أجواء من الترقب السياسي والتنافس الحاد بين الكتل والأحزاب التقليدية من جهة، والمرشحين المستقلين والقوائم المدنية من جهة أخرى.

وتُعدّ هذه الانتخابات السادسة منذ عام 2003، إذ يسعى العراقيون من خلالها إلى اختيار 329 نائبًا يشكلون مجلس النواب الجديد، في استحقاقٍ يمثل اختبارًا جديدًا للديمقراطية العراقية بعد سنوات من الأزمات الاقتصادية والسياسية.

ويؤكد بعض المرشحين أن الشاشات الإلكترونية أصبحت وسيلة فعالة للتواصل مع الجمهور، إذ يقول المرشح المستقل علي المياحي إن “ليس كل المرشحين يستخدمون الشاشات لأنها مكلفة جدًا وتحتاج إلى مال سياسي كبير”.

ويضيف: “نحن لا نملك مالًا سياسيًا كبيرًا حتى ننفق على الشاشات. صحيح أنها مؤثرة في جذب الناخب وتكوين الصورة الذهنية، لكنها خارج قدرتنا المالية”. ويتابع: “لذلك لجأنا إلى الفليكسات التقليدية وعلقناها في الشوارع والساحات العامة، رغم بساطتها، لأنها أقل كلفة بكثير من الشاشات التي تمتلكها الأحزاب الكبيرة.”

أما المرشح واثق الجابري فيرى أن “الفليكسات ما زالت مؤثرة شعبيًا. منذ عام 2005 وحتى 2021 اعتاد الناس على رؤيتها في الشوارع، فهي ما زالت وسيلة قريبة من الجمهور”. ويضيف: “صحيح أن بعض المرشحين اتجهوا إلى الشاشات ومواقع التواصل، لكن الأغلبية لا تزال تعتمد على الإعلانات التقليدية. مواقع التواصل شهدت طفرة محدودة، بينما الفليكسات تظل الأبرز في العراق ومعظم الدول العربية.”

في شارع الكرادة، يتجمّع مواطنون لمتابعة إحدى الشاشات التي تبث صور المرشحين. يقول قاسم عبد الله إن الإعلانات الضوئية “خلّت الشوارع تصير مثل المدن الكبيرة”، لكنه يضيف ضاحكًا: “بس لو المرشحين يوفّون بوعودهم مثل ما تصير صورهم حلوة على الشاشات!”
أما رنا حسين، موظفة في شركة اتصالات، فتقول إن الشاشات جذابة لكنها “تسبب أحيانًا زحمة وضوء قوي في الليل”، مؤكدة أنها مع “الوسائل الحديثة إذا كانت منظمة وتخدم الهدف الانتخابي من دون مبالغة.”

يقول الخبير الاقتصادي محسن الزيادي إن سوق الإعلانات في العراق “شهد خلال موسم الانتخابات الأخيرة حركة مالية غير مسبوقة، خاصة في قطاع الشاشات الرقمية والإعلانات الإلكترونية”. ويضيف: “نحن نتحدث عن مئات الملايين من الدنانير صُرفت خلال أسابيع قليلة على الشاشات والواجهات الرقمية. بعض الشركات تضاعفت أرباحها بنسبة تجاوزت 50% مقارنة بالعام الماضي، خصوصًا في بغداد والمدن الكبرى.”

ويتابع الزيادي: “التحول نحو الإعلان الرقمي لا يعني فقط تغيير وسيلة الدعاية، بل دخول قطاعات جديدة مثل شركات البرمجة والمصممين ومورّدي الشاشات والمعدات التقنية. حتى شركات الكهرباء سجلت ارتفاعًا في الطلب.” ويشير إلى أن “الانتخابات أصبحت محفزًا اقتصاديًا قصير الأمد لكنه مهم لتحريك السوق. ومع تطور التكنولوجيا، سنشهد في الدورات القادمة تراجعًا أكبر للإعلانات الورقية واتساعًا في الإعلانات التفاعلية الرقمية.”

خلال الأعوام الماضية، كانت الساحة الانتخابية تعتمد على اليافطات والفليكسات التي تغطي الجدران والأعمدة، لكن هذا العام تغيّر المشهد جذريًا. فالشاشات الإلكترونية العملاقة انتشرت في مفترقات الطرق والساحات العامة، لتصبح جزءًا من المشهد البصري الانتخابي الجديد، الذي لا يقتصر على الدعاية، بل يعكس تغيرًا في الذهنية السياسية والتسويقية للمرشحين.

وبحسب العاملين في هذا القطاع، ارتفع الطلب على الشاشات بنسبة كبيرة بسبب رغبة المرشحين في الظهور بمظهر أكثر حداثة وتأثيرًا، خصوصًا في المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة والنجف. إلا أن هذا الاتجاه كشف أيضًا عن فوارق اقتصادية واضحة بين المرشحين المستقلين وأصحاب الكتل الكبيرة، إذ تتطلب الإعلانات الرقمية تمويلًا ضخمًا لا يتوفر للجميع.

قبل عشرين عامًا، كانت الفليكسات تسيطر على أكثر من 90% من سوق الدعاية الانتخابية. ومع دخول الشاشات في انتخابات 2014 بنسبة لا تتجاوز 5%، بدأ التحول التدريجي. في انتخابات 2018 و2021 تضاعفت نسبتها إلى نحو 25%، أما اليوم، في انتخابات 2025، فقد أصبحت تشكل ما يقارب 50% من سوق الإعلان الانتخابي، بحسب تقديرات الخبير الاقتصادي محسن الزيادي.

ويختتم الزيادي حديثه بالقول: “المشهد الانتخابي هذا العام أظهر أن الشارع العراقي بدأ يتقبل الإعلان الرقمي كجزء من الثقافة الانتخابية، لكن ما زال أمامنا وقت حتى يتحول هذا الاتجاه إلى صناعة مستقرة ومنظمة بالكامل.”

بين بريق الشاشات وبهتان اليافطات، تعيد الانتخابات الحالية رسم خريطة سوق الإعلان في العراق. فبينما يتراجع الورق والمطابع إلى الخلف، تتصدر الشاشات الرقمية المشهد، لتصبح مرآة جديدة للسباق الانتخابي، ونافذة واعدة أمام الاقتصاد الرقمي المحلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى