شيرين أمين.. من معتقلات الأنفال إلى برلمان كوردستان
المنصة- ليلى أحمد
لدى “شيرين أمين” قصة طويلة مع اللباس الأسود الذي رافقها في معظم فصول حياتها، لم تخلعه إلا في مرات نادرة منذ أواخر الثمانينيات وإلى اليوم، حتى صار يذكر مواطنين كثر بثلاثة عقود من الحروب أودت بحياة أبرياء وشردت مئات الأسر.
شيرين ذات الـ 34 عاماً، النائب حالياً في برلمان إقليم كوردستان، عاشت أيام الطفولة الأولى في معتقلات صدام حسين وافترقت عن أقرب الناس لها، والدتها وشقيقاتها، ثم تتالت فصول مأساتها عقب زواجها قبل نحو عشر سنوات من الصحفي الكوردي المعارض كاوه كرمياني. آنذاك خلعت شيرين اللباس الأسود لأشهر، لكن سرعان ما اقتحم مسلحون ملثمون منزلهما وأردوا زوجها الصحفي قتيلاً على مرأى منها وهي في أشهر حملها الأولى.
الاعتقال، واليتم المبكّر، وفقدان الأشقاء، والترمّل بعد أيام من الزواج، كل هذا لم يمنع هذه السيدة من إكمال مسيرتها والترشح لانتخابات مجلس النواب في إقليم كوردستان، بل إنها أصرت بعد فوزها بمقعد عن محافظة السليمانية عام 2018 على أن تحضر الجلسة الأولى رفقة ابنها الوحيد “آمد” الذي كان جنيناً لحظة اغتيال والده، في مشهد رمزي اعتبره كثيرون بمثابة تحدي لقتلة زوجها.
في هذه المقابلة تقول شيرين أمين إن لديها اليوم كنائب في البرلمان، الكثير من المهام لتقوم بها من أجل هذا الصبي ومن أجل آلاف الأسر الجائعة والأطفال المشردين.
طفولة في المعتقل
عندما التقينا النائب شيرين أمين كانت كعادتها متشحة بالسواد، وكانت عيناها تغرقان بالدموع مع كل سؤال نطرحه عليها رغم محاولاتها كل الوقت أن تحبس دموعها وأن تبقى متماسكة، ربما كي لا ينتقل الحزن إلى طفلها “آمد” الذي يجلس إلى جوارنا منصتاً باهتمام لقصة عائلته كما ترويها والدته.
ولدت شيرين المعروفة أيضاًَ بـ “شيرين كاوه كرمياني” في إحدى قرى ناحية رزكاري في قضاء كلار التابع لمحافظة السليمانية. وفي عام 1988 عندما كان نظام صدام حسين مسيطراً على العراق وإقليم كوردستان قام بتنفيذ حملة الأنفال ضد الأكراد، فتعرضت أسرة شيرين جميعها والتي كانت تتألف من والديها وأختين للاعتقال والتعذيب أو القتل.
عمليات الأنفال هذه أو “حملة الأنفال”، هي إحدى حملات الإبادة الجماعية التي نفذها النظام العراقي السابق ضد الأكراد في إقليم كوردستان باستخدام السلاح الكيماوي، إذ اعتبرت الحكومة العراقية آنذاك الأكراد مصدر تهديد لها، وقد أوكلت قيادة الحملة إلى علي حسن المجيد الشهير بـ “علي الكيماوي” الذي كان بمثابة الحاكم العسكري للمنطقة.
“كنت أبلغ من العمر ثلاثة أشهر فقط وكانت والدتي حاملاً. أخذت حكومة البعث والدي فلم نعد نسمع أخباره، بينما أخذونا أنا وأختي وأمّي الحامل إلى سهول نقرة السلمان واعتقلنا هناك حوالي تسعة أشهر دون أن يقدموا لنا الطعام أو الماء.”، تقول شيرين عن مراحل طفولتها الأولى.
تتابع شيرين: “ساءت حالة والدتي الصحية ووضعت طفلتها داخل المعتقل فأصبحنا ثلاث أخوات. بعد ذلك أطلقوا سراحنا في عفو عام، لكن عند عودتنا لمنطقة كرميان كان والدي الثلاثيني وجميع أقاربي من الرجال والشباب قد تعرضوا لحملة الأنفال ودفنوا أحياء، ولم يبق سوى النساء والشيوخ والأطفال، وكان الجميع تائهين ومتشرذمين.. وتفرق الكثير من الأولاد عن أمهاتهم”.
البحث عن العائلة
حافظت الطفلة شيرين بأعجوبة على حياتها في معتقل نقرة السمان الواقع جنوبي شرقي صحراء السماوة بالعراق، وهو عبارة عن قلعة من ثلاثة طوابق تغص بالسجناء وتنتشر فيه الأوبئة والأمراض، وإلى جواره مقبرة يدفن فيها كل من يموت من المعتقلين، وكان ذلك السجن يعتبر الأشهر بعد سجن “أبوغريب” في عهد النظام السابق.
عند خروجها من المعتقل مع بقية المعتقلين أضاعت شيرين أمها وأختيها ولم تعرف ما هو مصيرهنّ، تقول “استلمتني عمتي، هي امرأة عزباء أُنفل جميع أفراد أسرتها.. رعتني واهتمت بي”.
طوال تلك الفترة عاشت شيرين مع عمتها في دكان مبني من البلوك، أعواماً مليئة بالجوع والأزمات كما تصفها، “كنا نحصل على لقمتنا اليومية من صدقات الناس”، لكنها مع ذلك دخلت المدرسة في عمر الست سنوات وفي بالها أن تكبر وتعثر على والدتها وبقية أفراد أسرتها الناجين من المجزرة، إلى أن جاء يوم يحمل لها خبراً مشؤوماً.
تقول: “كنت قد نسيت شكل والدتي وأختاي، بحثت أنا وعمتي عنهنّ أكثر من عشرة أعوام ولم نجدهنّ، وفي أحد الأيام تلقينا رسالة مفادها أن أختاي ووالدتي قد احترقن مع عمّة لي وولديها داخل شاحنة.. كانت هذه قمة مراحل يأسي.. ولم أبحث عنهنّ بعد ذلك”.
“أنا اختك”
عند وصول شيرين إلى الصف الثالث الابتدائي، وفي إحدى الاستراحات في ساحة المدرسة بين الدروس وضع شخص يداه على عيناها من الخلف. “ظننت أنها صديقتي تمازحني.. قلت لها أبعدي يديك عني، أعرف أنه أنت، ولكن عندما التفتُّ إلى الخلف رأيتُ وجه فتاة غريبة صرخت قائلة: أنا أختك الكبرى شهلاء.. فتجمدت من الفرح”.
كان جدّ شيرين لأمّها قد عثر على والدة شيرين وشقيقتها في قضاء جمجمال التابع لمحافظة السليمانية بعد رحلة بحث طويلة، أما أختها الثانية التي ولدت في المعتقل فلم تكن معهما.
“لقد احترقت مع عمتي وطفليها داخل الشاحنة وتفحموا وهي في العاشرة من العمر وقد دفنتهم البلدية في المقبرة، بينما بقيت أمي وأختي الكبرى في المستشفي بكركوك لثلاثة أشهر تحت العناية الطبية بسبب احتراق جسديهما”، تقول شيرين بحسرة وتتابع: “كنت أتوق لرؤية أختي الصغرى.. أعطوني صورتها فبكيت كثيراً”.
اغتيال كاوه
بعد عشرة أعوام من لم شملها مع أمها وأختها لم تتمكن شيرين من العيش مع أسرتها في بيت واحد، “لم أكن أستطيع الاستقرار دون عمتي، فهي التي ربتني ولم أرد تركها وحيدة، لذلك قررت العيش معها، وعندما تزوجت عمتي أخذتني عندها وساعدتني على إنهاء دراستي المتوسطة والاعدادية، ثم اكلت الدراسة في قسم إدارة الأعمال في المعهد”.
عملت شيرين خلال دراستها مع عدد من المنظمات الحقوقية والإنسانية، كما عملت في الصحافة، وكانت تنشر كتابات وأشعار في الصحف والمجلات بين الحين والآخر، ومن خلال عملها تعرفت على الصحفي كاوه كرمياني الذي قتل والده على يد النظام البعثي وقد ربته أمه يتيماً، فقررت شيرين الزواج به.
“في حياتي الزوجية لم يكن كاوه زوجاً مخلصاً ومحباً وحسب، بل كان دعماً وسنداً لي ولكل أهلي، يحترمني ويخلص لي، بحثنا أنا وكاوه لثلاثة أشهر عن بيت نبدأ فيه حياتنا الجديدة ثم تزوجنا في 12 كانون الثاني 2012 وبعد أشهر من حملي في بيتنا الطيني القديم، تعرض كاوه كرمياني للتهديد والاستفزاز وتم ضربه وكسر أنفه وسجن مرات عدة إلى أن تم اغتياله في ظلام ليلة الجمعة بعد العشاء داخل بيتنا الطيني”.
تتوقف شيرين عن الكلام لتطلب منديلاً تمسح بها دموعها، وتتابع “يومها لم يكن بقي سوى سبعة أيام لذكرى زواجنا الأولى ولم يبق لولادة طفلي سوى 17 يوماً.. تدهورت حالتي الصحية والنفسية وقرر الأطباء على عجل إجراء عملية قيصرية لولادة الطفل الذي كان عمره في بطني 8 أشهر وبضعة أيام”.
ظلم من حكومتين
حين كانت شيرن تروي هذه القصة كان قد مرّ على استشهاد حوالي عشر سنوات، لكنها لا تزال مصدومة من ليلة مقتل زوجها، وتقول: “كل يوم أتألم بسبب مقتل زوجي كاوه كرمياني.. كاوه كشف العشرات من ملفات فساد مسؤولي كرميان، وهذا هو ذنبه.. وأنا الآن أعيش مع طفلي الذي حرم من رؤية والده”.
تلخص النائب في البرلمان الكردستاني قصتها بالقول إنها ظلمت من قبل حكومتين، “وأدت حكومة البعث عائلتي في حملات الأنفال، واغتيل زوجي في ظل حكومة الإقليم الكوردية وكبر ولدي مثلي دون أب”.
وتتابع: “في عام 2021 أحيينا الذكرى الثامنة لكاوه كرمياني الصحفي، أحد قتلة كاوه يقبع اليوم في السجن، لكننا نعلم أن هذا القاتل هو مجرّد منفذ للعملية فقط وهناك من هو اكبر منه يقف وراء الجريمة، فقد تبين لنا أن اثنين من مسؤولي كرميان مسؤولان عن اغتيال زوجي”.
وتابعت شيرين زوجة “شهيد القلم” كما يلقب في الإقليم قائلة: “ضحيت مرتين، أنفلني البعث مرة، وأنفلتني السلطة الكوردية مرة أخرى.. كانت حياتي بعد مقتل زوجي أليمة، وقد عشت دوما بصعوبة ومكسورة الخاطر، لكنني أواجه آلامي كي أربّي ولدي، وهو اليوم في الصف الثالث الابتدائي”.
في البرلمان
في العام 2018 قررت شيرين أمين أن تخوض التجربة السياسية مدفوعة بثقل الماضي، فرشحت نفسها لعضوية برلمان كوردستان ضمن قائمة حركة التغيير، ونافست أكثر من 700 مرشح آخر آنذاك للحصول على أصوات ثلاثة ملايين و300 ألف مواطن في الإقليم يحق لهم التصويت.
ورغم صعوبة التحدي وضعف الامكانات المادية خاضت شيرين معركتها من دون حملة انتخابية، ومع ذلك “صوّت لي الكثيرون خصوصاً وأن مواطني كرميان كانوا يعرفونني ويعرفون كاوه الصحفي ويعرفون أننا صادقين وأمينين ومؤهلين لتمثيلهم، فدخلت برلمان كوردستان”.
وعن مسؤولياتها كنائب في البرلمان تقول “أم آمد” بأنها مستمرة في المعركة التي خاضتها أسرتها ومن ثم زوجها في مواجهة الفساد والدكتاتورية، وتضيف: “تقع على عاتقي الآن مسؤولية كبيرة.. أنا أمثل شعب كوردستان وخصوصاً كرميان، ولن أبقى أبداً صامتة ولن أتوانى وسأحاول استعادة أموال الناس المسروقة”.
خلال سنوات عملها في البرلمان ساعدت “شيرين أمين” مواطنين كثر، وخصوصاً النساء، في تحصيل حقوقهم ونقل أصواتهم ومشاكلهم إلى صناع القرار، “لذلك تعرضت للكثير من التهديدات والمؤامرات الدنيئة والتشهير بي وبطفلي”.
لكنها تؤكد أن “أصوات الظالمين لن توقفني حتى لو كانت الضريبة التي سأدفعها هي الموت كما حصل مع زوجي.. سأستمر في معركتي دفاعاً عن صوتي وصوت من أمثلهم”. وتختم كلامها بالقول: “نحن النسوة لابدّ أن يكون لنا وجود أكبر، سواء داخل البرلمان أو في أي مجال آخر”.
تأتي هذه الحلقات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج إقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD)، وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية (CFI).