أول امرأة كابتن طائرة حربية في العراق: “نجوت من الموت مرات عدة”
المنصة – فاطمة كريم
في زمنٍ كانت فيه قيادة الطائرات الحربية حكرا على الرجال، شقت فائزة العزاوي طريقها نحو المجد لتصبح أول امرأة عراقية تقود طائرة حربية رسمت من خلالها ملامح حقبة جديدة للمرأة العراقية في مجال الطيران العسكري، متحدية القيود الاجتماعية والتقاليد التي كانت تحجم دور النساء آنذاك.
فائزة جاسم محمد العزاوي في عقدها الستين اليوم حصلت على رتبة النقيب الطيار في مجال الطيران العسكري الحربي، وشقت طريقها في مجال الطيران منذ نعومة اضافرها وكانت هاوية له تقول “عندما كنت في مرحلة الإعدادية ودخلت تدريبا في مطار المثنى وكان طيران مضلي، كل من في المدرسة كان يعلم بمدى حبي للطيران حتى مديرة المدرسة كانت تساعدني في اخذ اجازة من الدوام وتساعدني في الامتحانات كي اواصل طموحي”.
جاسم محمد والد النقيب فائزة، كان الداعم الأول لها منذ بداياتها بعدما تخرجت من الإعدادية سارع بها إلى مقر القوة الجوية في بغداد ليعرف إذا كان ممكنا ان يسمحوا لها التقديم في مجال الطيران وهي امرأة فتفاجئ بقبولها.
بعد قبولها في كلية القوة الجوية العراقية خضعت العزاوي إلى فحوصات دامت ثلاثة شهور وهي فحوصات صعبة جدا كما وصفتها، كانت فائزة من أوائل النساء اللواتي تم قبولهن في هذا المجال وهن عشرين امرأة فقط وتقول “بعد مدة من دخولي إلى الكلية صدر قرار من مجلس قيادة الثورة آنذاك بقبول النساء الطيارات في مجال الطيران الحربي وكنت من أوائل المشاركات”
كلية القوة الجوية العراقية هي إحدى الكليات العسكرية التابعة للمؤسسة العسكرية في العراق، وهذه الكلية تم تنظيمها بموجب قانون أصدر بتاريخ 1 حزيران لعام 1964، والمستند إلى قانون إدارة الجيش العراقي رقم 107 لعام 1960، ونظم القانون عمل الكلية والقبولات فيها.
لم تكن رحلتها سهلة، لكنها كانت مليئة بالإصرار والإيمان وبقدرتها على تحقيق حلمها، ووالدها كان لها السند الدائم في جميع المراحل التي مرت خلالها، متحدية القيود المجتمعية والنظرة التقليدية لدور النساء حيث أكملت فائزة دراستها في الكلية وتلقت خلالها تدريبات مكثفة على أيدي أساتذة كبار في مجال الطيران الجوي.
وقادت خلال مسيرتها التعليمية طيارات عدة وحلقت في سماء العراق كالطير إذ اشاد بها جميع من دربوها آنذاك وتقول “لم أكن اخاف ولا أشعر بالرهبة عندما احلق في السماء على العكس تماما كنت دائما متحمسة على أن اخوض تجربة جديدة واتعلم أمورا أكثر”.
لم يحالف الحظ كل النساء اللواتي درسن في الكلية فقد فشل الكثير منهن في أداء الطيران، اما فائزة فاجتازت جميع المراحل بامتياز وبعد تخرجها اختيرت من ضمن خمسة أشخاص يصلحوا ان يكونوا معلمي طيران، وتضيف “بعد اختياري لاكون معلم طيران جوي دخلت إلى تدريب في معسكر الرشيد وحصلت على شهادة التدريب من خلاله، من بعدها درست عشرات الطلاب”.
لم تكتفِ العزاوي بكونها أول طيارة حربية عراقية، بل سلكت مسيرة أخرى لا تقل مجدًا، حين أصبحت معلمة للطيران في سنة 1983، نقلت خلالها خبرتها وحبها للتحليق إلى عشرات الطلاب الذين كانوا يحلمون بأن يحذوا حذوها، فقد كانت أكثر من مجرد معلمة لهم كانت مصدر إلهام ومرشدة حكيمة، وقادت طائراتها برفقة طلابها الذين كانوا يرون فيها مثالًا يُحتذى به فحلقت بهم لتعلمهم أسس الطيران وتزرع في قلوبهم الشجاعة.
تقول فائزة ” كانت كل وجبة تدريب استلمها تتكون من خمسة طلاب وكل طالب كنت احلق معه يوميا لمدة 45 دقيقة تدريب اي قرابة اربع او خمس ساعات يوميا في الجو” أصبحوا طلابها اليوم قادة وكباتن، يشغلون مناصب رفيعة في المجال العسكري والمدني، وحتى الآن لا تزال ذكراها حاضرة في نفوسهم ويروون قصصها بفخر.
سنوات طويلة قضتها العزاوي بين الأجواء وقاعات التدريب وحصلت لها مواقف كثيرة أثناء الطيران تستذكرها بالقول ” نجوت من الموت مرات عدة أثناء الطيران، مهما كنت متمكنا لابد أن تغدرك الطائرة في لحظة ما وتتعرض لحادث معين لكن المهارة تكمن في كيفية تفادي الأمر والسيطرة عليها حتى تنجو من الامر”
خلال مسيرتها قادت العزاوي خمسة أنواع من الطائرات ثلاثة منها كانت من النوع مروحية وثنتان نفاثة من نوع ( L39 )وهي من أصعب الطائرات الحربية التي تكون على خط الدفاع الرابع في أوقات الحرب.
بعد سنوات من التحليق في السماء، حيث كانت أصوات المحركات تشعرها بالحياة وامتداد يمنحها الحرية، توقفت فائزة العزاوي عن الطيران في عام 1990، قرارها لم يكن نابعا من اختيارٍ شخصيّ بقدر ما كان استجابة لنداء الحياة الأخرى، حين تزوجت وأصبحت أمًا لثلاثة أطفال، لتبدأ رحلة جديدة مليئة بالمسؤوليات والتحديات اليومية.
في تلك المرحلة، لم تعد العزاوي قائدة للطائرات، لكنها أصبحت قائدة لعائلتها، تُكرس وقتها لرعاية أبنائها وتوجيههم ومع ذلك، ظل الشوق إلى السماء يُرافقها، وتقول: “كأني طير وقصوا أجنحته”، تعبيرًا عن ألم الفراق بينها وبين الطيران الذي كان جزءًا لا يتجزأ من حياتها يوما.
رغم أن الطائرة لم تعد وسيلتها للتحليق، إلا أن ذكرياتها على متنها بقيت تعيش داخلها، ترافقها في أحلامها وأحاديثها. طلابها الذين أصبحوا اليوم قادة وكباتن ما زالوا يذكرونها بكل فخر، يجسدون إرثها في كل رحلة جديدة، وكأنهم يعيدون تحليقها من جديد.
العزاوي لم تعد تحلق في السماء، لكنها تركت بصمة خالدة في قلوب الأجيال التي تعلمت منها أن الطموح لا يعرف حدودًا، وأن التحليق الحقيقي لا يُقاس بالمسافات، بل بالأثر الذي نتركه خلفنا.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)