نساء تركن ارض الأجداد.. حكايات النزوح من قرى واهوار الجنوب

 

المنصة – خلود العامري

 

غادرت عائلة محمد أبو حسين قبل عامين قرية “الحصونة” في قضاء سيد دخيل شرق محافظة ذي قار تاركة خلفها ارضا بور تمتد على مساحة 200 دونم (الدونم يساوي 2500 متر وفقا للمقياس المعتمد في العراق)، فالقرية التي كانت تضم 76 منزلا قبل عشر سنوات لا يقطنها اليوم سوى سبع عائلات فقط بسبب الجفاف والهجرة.

تقطن العائلة المكونة من سبعة افراد في بيت بسيط في دور الزراعة بأطراف الناصرية شمالا، تبلغ مساحته 100 م2 وكان هو الآخر جزءا من مزرعة قمح تم تقطيعها بعد التوسع العمراني وزحف المدينة لتبتلع مزيدا من الأراضي الزراعية وتتحول الى سكن عشوائي يقطنه النازحون من مناطق الاهوار والمناطق المتضررة بسبب الجفاف والتغيرات المناخية التي لامست رئة الجنوب في العراق.

لا تبدو ام حسين السيدة التي تجاوزت الستين بقليل مرتاحة في مكانها الجديد، إذ تنهمر دموعها فور المبادرة بسؤالها “شلونج خالة” فتفتح قلبها للإفصاح عن ألم الغربة عن الأرض التي نشأت فيها منذ الطفولة وغادرتها الى مسكنها الجديد الذي تسميه بعبارتها المتكررة “السجن الذي جلب لها الامراض”، فالسيدة التي اعتادت على الفضاء الواسع سعة ارضها الممتدة على مرمى البصر، باتت اليوم حبيسة مكان لا يسمح لها بالحركة سوى بضعة امتار.

“سبقنا الى هنا أناس آخرون من قريتنا وعندما ضاق الحال بنا هناك وقضى الجفاف على ارضنا ومواشينا نزحنا لننظم اليهم، وبعد أيام فقط من السكن اصبت بمرض السكري والضغط وأصبحت اتحرك بصعوبة بعدما كنت اجوب ارضا واسعة سيرا على الاقدام دون ان اشعر بالألم، انني في سجن صغير سيقضي على حياتي يوما ما ” تقول ام حسين وهي تتذكر ارضها التي نزحت منها.

تعاني النساء من مشكلات النزوح المناخي اكثر من الرجال بسبب صعوبة التأقلم مع المساحات الضيقة التي يسكننها بعد ترك الأراضي الزراعية والاهوار، فمعظم هؤلاء النسوة ولدن وترعرعن بين أحضان الطبيعة ولن يتأقلمن بسهولة مع حياة المدن والسكن في العشوائيات فيصبن بامراض جسدية وأخرى نفسية تفترس اجسادهن.

لم تصب ام حسين يوما بالأمراض في موطنها الذي غادرته فالأرض واسعة والرزق وفير وسكان القرية يبادرون للتعاون فيما بينهم اثناء موسم الحصاد قبل ان تدخل آلات الحصاد “كنت صغيرة العب مع اقراني بين الحقول واقف باتجاه الريح حينما يقوم الفلاحين بفصل حبوب القمح عن التبن وكانت ضفائري تمتلئ بالأتربة وبقايا سيقان الحنطة الطائرة في الهواء وكلما اتسخت ضفائري اكثر وغطى الترا عيوني كنت اكثر سعادة كنا أطفالا نضحك على شكل بعضنا البعض، واليوم اختفت تلك الذكريات مع جفاف الأرض ورحلة النزوح” تضيف ام حسين بحسرة.

حكايات النزوح

مظاهر النزوح بسبب الجفاف من مدن الجنوب بدأت مبكرا قبل اكثر من ثلاثين عاما، حيث نزحت اعداد كبيرة من سكان الاهوار الى مدن وسط العراق بعد تجفيف نظام صدام حسين للأهوار، كانت النساء النازحات الى القرية التي أعيش فيها في كربلاء يخرجن في مجموعات تتألف من خمس نساء على الأقل بحثا عن القصب الذي اعتدن قطعه بالمنجل من الهور، فحتى لو غادرن الوطن لن يتخلين عن مهنة صناعة الحصائر التي يسميها السكان محليا “البارية”.

في القرى التي نزحن اليها كان السكان يستهجنون قيام تلك النسوة بالغناء اثناء جمع القصب من المبازل المالحة داخل القرية، فالناس لم يعتادوا على هذا التناغم الكبير بين النساء والطبيعة واعتبروا الامر خدشا للحياء، كانوا يضنون انهن نساء رخيصات لا يملكن الحياء الذي يجب ان تتمتع به المرأة، ويردن لفت الانتباه وينادونهن بـ”الغريبات” ، لكن الامر تغير تدريجيا ودرس أولاد تلك النسوة في مدارس القرية ولم ينشؤوا مثلما نشأ اسلافهم بل باتوا جيلا لا يعرف شيئا عن الهور سوى ما تتناقله امهاتهم من حكايات.

ما عاشته تلك النسوة منذ سنوات تعيشه ام حسين اليوم مع بناتها اللواتي يشعرن بالألم ذاته لفراق الأرض، فتيات تجاوزن الثلاثين بوجوه سمراء شاحبة لم تغير الحياة الجديدة من ملامحهن القروية، الفطرة ذاتها والترحيب فوق المعتاد بالضيف، يعتذرن عن عدم وجود كرسي نجلس عليه ويفرشن بساطا جديدا لحثنا على الجلوس ” لا نريد العيش هنا لم نتمكن من التأقلم مع المكان حتى بعد مرور عامين على وجودنا، هل تستطيعون مساعدتنا؟ في العودة، نريد عودة الماء كي نعود الى أراضينا هل يمكننا ذلك”؟.

قابلنا العدد الكبير المتدفق من الأسئلة بالصمت لترتيب افكارنا، كنا نخشى الإجابة اكثر منهن فبدأنا بالحديث عن إمكانية المساعدة فيما لو قررت العائلة العودة الى ارضها عن طريق جمع التبرعات من أشجار الزيتون وزراعة الأرض مجددا بالتدريج، بدا المقترح باهتا لنساء يبحثن عن أي مخرج من السجن الذي وضعن فيه مجبرات مثلهن، ورد أبو حسين الذي كان ينصت الى كلامنا “نحن لا نعرف سوى زراعة الشعير”.

بين بابل وكربلاء وبالتحديد في منطقة ابي غرق تعيش خمس عائلات مجتمعة نزحت من الاهوار في جنوب العراق بحثا عن مكان مؤقت للعيش، استاجروا ارضا قاحلة بمبلغ (320 ) دولارا سنويا وشيدوا منازل من الطين والقصب وحوش كبير لينام فيه الجاموس، انهم يرفضون بيوت الكونكريت ويريدون الاحتفاظ ببيوتهم القديمة فرحلة نزوحهم بدأت منذ سنوات ولم تنته حتى اليوم.

تقول احدى السيدات التي تدعى ام علي “لم نجد حلا نهائيا نحن نازحون دوما منذ اكثر من 25 عاما نزحنا الى السماوة في تسعينات القرن الماضي ثم عدنا الى الهور ونزحنا مرة أخرى ، في أحيان كثيرة نغادر لشهور ثم نعود في الشتاء الى الهور ولا نعلم متى ينتهي الامر، لا نريد شيئا فقط اعطونا الماء”.

تلك العائلات لديها أطفال في سن المدرسة تركوا التعليم تحت وطأة النزوح فلا توجد مدرسة تقبل بتسجيل أطفال نازحين بطاقة سكنهم مازالت تشير الى مدينتهم الام “الناصرية” وينتقلون في كل عام الى مكان جديد، وعلى بعد بضعة امتار من كوخهم القصبي الذي يجتمعون فيه ليلا للتسامر وشرب الشاي على مصباح خافت تتوزع اوتاد ربطوا بها عشر جاموسات بعمر صغير يتراوح بين عام وعامين يطلق عليها مربي الجاموس تسمية “الحشوات” ومفردها “حشوة” وهي الجاموسة التي لازالت في مقتبل العمر.

دفعني الفضول للتساؤل فالجاموس الذي رايته في الهور اكثر ضخامة واكبر عمرا، اجابني احد النازحين “الجاموس الكبير لا يعيش بدون ماء لقد بعنا الكبيرات وابقينا على الصغيرات لانهن اكثر تحملا في الابتعاد عن الماء ويتحملن عدم السباحة لشهور على نقيض الجاموس الكبير.

ارقام مخيفة

وذكرت منظمة الهجرة الدولية (IOM) نزوح أكثر من 12200 اسرة نازحة تضم 73.272 فردا بسبب ظروف الجفاف حتى منتصف آذار من العام الماضي (2023) واحتلت محافظة ذي المرتبة الأولى في عدد النازحين بسبب المناخ تلتها محافظة ميسان.

وتؤكد وزارة البيئة العراقية في دراسة حول النزوح المناخي ان العدد ارتفع الى 23.364 عائلة تضم 140184 فردا في منتصف آذار 2024 في 12 محافظة عراقية، مؤكدة ان من ابرز المحافظات التي استقبلت الاسر النازحة مناخيا هي محافظة بغداد تلتها محافظة كربلاء وان هذه الاسر انتشرت في 497 موقعا في مدن مختلفة داخل العراق، حيث نزحت 53 % من تلك الاسر الى مناطق قروية أخرى فيما نزح 47 % منها الى مناطق حضرية.

يقول الخبير البيئي جاسم الاسدي الذي يقطن في قضاء الجبايش ان الاهوار العراقية في الجنوب كانت تضم اكثر من 40 قرية في تسعينات القرن الماضي اما اليوم فالتغيرات المناخية فضلا عن الجفاف بسبب سوء إدارة المياه وخفض تركيا للإطلاقات المائية القادمة الى العراق وتحويل ايران مجاري الروافد الى أراضيها انخفض عدد سكان هور الجبايش الى 22 عائلة يقطنون قريتي البغدادي والحلاب وان معظم النازحين من الاهوار هن من النساء.

ام حسين لا تصدق اية ارقام تصدر عن جهات حكومية او غير حكومية فهي تعتقد ان هذه الأرقام تشمل الاسر التي سجلت نفسها لدى المؤسسات او المنظمات اما غير المسجلين فحكاياتهم لم تسمع بعد “لا احد يعرف العدد اذا كانت قريتنا خلت من معظم سكانها في غضون عامين فما حال باقي القرى في الجنوب، انهم لا يعرفون الكثير عنا” تكمل عبارتها بسخط.

وزارة البيئة وضمن خطة التكيف الوطنية وبالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة عرضت موديل التنبؤ المناخي في سبتمبر الماضي على عدد من المنظمات والصحفيين في جلسة أقيمت في مديرية التغيرات المناخية بالتعاون مع شبكة صحفيات من اجل المناخ، ضم الموديل أسوأ وافضل السيناريوهات المتوقعة للعراق من ناحية الهطول المطري وارتفاع درجات الحرارة وارتفاع مستوى المياه المالحة في شط العرب.

هذا التنبؤات اشارت الى ان مدن البصرة وذي قار ستغمر بالمياه المالحة بحلول عام 2150 وسينزح جميع سكانها نحو وسط وشمال العراق في حال ارتفع منسوب المياه المالحة بمعدل 2 متر في العام المذكور وهذا ما يعني اختفاء مدن عراقية بالكامل نتيجة للتغيرات المناخية ونزوح سكانها بمختلف فئآتهم الى مدن أخرى.

“هل سننزح من جديد ونغادر مدننا” تسأل ام حسين حينما تسمع النقاش حول هذه الأرقام فنجيبها بصوت واضح ” لا نعلم ما يخبئ لنا القدر يا خالة ولكننا لن نكون موجودين في ذلك الوقت” تصمت قليلا ثم ترفع يدها نحو السماء “حلها يمك ربي” تقولها بخوف ثم تدخل غرفتها الصغيرة لتصلي.

 

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى