أم عباس: حكاية امرأة صابرة على أرصفة ساحة عدن
فاطمة كريم – بغداد
على رصيف مزدحم في ساحة عدن، وسط ضجيج المارة وحركة السوق الدائمة، تفترش أم عباس الأرض، حولها صفوف الأواني والصحون تلمع تحت أشعة الشمس، بينما تلف رأسها بغطاء أسود بسيط يضيف إلى مظهرها هدوءاً وقوة.
تسكن هذه السيدة السّتينية في منطقة النهضة ببغداد، وقد سبق وأن عملت في مجالات متعددة، من بيع الملابس المستعملة إلى الخضروات، قبل أن تستقر على بيع الصحون والأواني في ساحة عدن.
تقول: “منذ أن توفي زوجي في عام 2006، وأنا أعمل لتربية أطفالي السبعة الذين تركهم خلفه، وأصبحت لهم الأم والأب في آن واحد”.
تبدأ أم عباس يومها بفتح بسطتها عند الساعة الثامنة صباحاً، وتغلقها في الرابعة مساءً. بيدين قويتين، ترفع الصناديق الثقيلة وتعرضها بعناية لتجذب الزبائن. تبدو وكأنها جزء من المكان، شاهدة على كل ما يحدث في هذه الساحة. صوتها أحياناً يعلو منادية على بضاعتها، لكنه يحمل دفئاً يعرفه كل من تعامل معها.
تقول أم عباس وهي ترتب أكوام الصحون: “تطاردني البلدية يومياً لأن مكاني غير قانوني، لكنني لا أحزن منهم، فهم يؤدون عملهم وأنا أبحث عن رزقي. أعرف كيف أتفادى مصادرتهم لبضاعتي”. وتضيف ضاحكة: “أصبحنا مثل الفأر والقط، لكن لا يستطيعون هزيمتي؛ فأنا الفأر والفائز دائماً”.
وسط هذه المعركة اليومية، تحرك أم عباس بضاعتها بمهارة وتراقب الشارع بعينين حذرتين. عندما تقترب سيارات البلدية، تلملم أغراضها بسرعة وتختفي عن الأنظار، لتعود بعد لحظات وكأن شيئاً لم يكن.
في هذا المكان المزدحم، حيث يتجمع الموظفون والطلاب ومختلف فئات المجتمع، أصبحت أم عباس جزءاً من نسيج المكان. يعرفها الجميع، من المارة إلى أصحاب المحال المجاورة. تقول: “أنا هنا أم للجميع، من أصحاب العربات إلى الموظفين والطلاب، محبتهم هي أغلى مكسب لي”.
نور كاظم، الملقبة بـ”أم أحمد”، موظفة في إحدى المدارس المجاورة لساحة عدن، تعرف أم عباس منذ أكثر من عام. تصفها بالمرأة القوية، “أراها قدوة كبيرة لنا جميعاً. استطاعت تربية أولادها السبعة بعد فقدان زوجها، لم تستسلم أو تضعف، بل واجهت الحياة بشجاعة”.
تضيف أم أحمد: “أحياناً أطلب منها أشياء تحتاجها بيتي، ولا تقصر أبداً، بل توفرها لي بسرعة ودون زيادة في السعر. بل في كثير من الأحيان، عندما لا أملك المال الكافي، تقول لي: خذي ما تريدين ولا تفكري بالمال”.
وسط ضجيج ساحة عدن، تظهر دراجات التكتك بحركتها السريعة التي تضيف للمشهد صخباً وحيوية. أصحاب التكتك يعرفون أم عباس جيداً، ويمرون بها يومياً ليمازحوها بتعليقات مرحة. يقول علي، أحد أصحاب التكتك: “يمّه، كم سعر الصحون إذا تنكسر على الأرض؟”، فترد أم عباس بلهجة ساخرة: “ما تنكسر، إلا إذا طاحت على رأسك!”.
تتكرر هذه المواقف الطريفة يومياً. تقول أم عباس بابتسامة: “هؤلاء أولادي، يحبون المزاح معي. لو لم يأتوا يوماً، أشعر أن يومي ناقص”. وفي كل مرة، تنتهي هذه المشاكسات بضحكات متبادلة، تملأ الجو بروح من الألفة والمحبة.
أم عباس ليست مجرد بائعة، بل رمز للصبر والقوة في ساحة عدن. كل من يمر هناك يعرف أن هذه المرأة الصابرة تحمل قصة كفاح تستحق أن تُروى. عند نهاية يومها، تجمع أم عباس بضاعتها بعناية، تنظر إلى ما تبقى بابتسامة صغيرة وتقول لنفسها: “غداً يوم جديد، ورزق جديد”.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)