فوبيا الموصل
أكتب عن مدينة عمرها 6000 سنة, كانت مركزا دينيا وحضاريا في فترات مهمة من تاريخ الانسانية, وربما لم تحظ مدينة أخرى بمثل ماحظيت به من ذكر في الكتب السماوية والوصايا وكتب التاريخ, اجدني قد قسوت عليها وعلى نفسي بهذا العنوان , لكنها ظاهرة اخذت تكبر وتتفاقم شيئا فشيئا .
التقيت باحمد أحد تجار المدينة الصغار غادرها بعد سيطرة داعش عليها, وعاد اليها وهو يحمل شوقا واملا وطموحا في ان يساهم ببنائها بما يستطيع ان يقدمه, ولكنه سرعان ما قرر العودة الى اربيل وعندما سألته عن السبب أجاب : لا استطيع ان اغامر في البقاء من جديد.
وفي المقابل فان يوسف وهو أحد مسيحيي المدينة غادرها بعد تهديد تلقاه عام 2006 كانت ملامح وجهه قد اعتراها شحوب كبير وآثار السنين خطت خطوطا كبيرة لا تتناسب مع كونه في بداية العقد الرابع من عمره, وهو يحمل نفس الآمال في بناء مدينة تحوي الجميع كما كانت، لكن كل آماله بدأت تتحطم, ليجعل الهجرة من العراق خطته القادمة.
ثمة فوبيا إذن!؟
الفوبيا هي الخوف الذي لا يخضع للعقل, وهو يخلق رهبة في النفس تكون شاذة عن المألوف, خوف لا شعوري من أشخاص أو مواقف أو أماكن , وبالنسبة للموصل فان الخوف من المدينة والسكن فيها دفع الكثيرين وفي أوقات مختلفة لمغادرتها , وهنا يكمن السؤال : هل فوبيا الموصل خوف حقيقي ام هي مجرد ارهاب نفسي يتم الأعداد له لقاء أهداف وغايات أخرى؟
متى بدأت فوبيا الموصل؟
مرت فوبيا الموصل بعدة مراحل وفي كل منها هناك فئة تتفرج وفئة تعاني, والشيئ المحزن ان المراقب الموصلي لم يتدخل ليضع حدا لهذا منذ البداية مما ترتب عليه زيادة في الخوف وفي أعداد المغادريين .
قال لي صديقي أن أول فوبيا حقيقية حدثت لليهود منتصف القرن الماضي, وبعيدا عن دور الوكالة اليهودية في تهجيرهم ودفعهم للمغادرة , لكن سكان المدينة كان لهم دور أساسي في تقبل فقدان أحد المكونات ذات الامتداد التاريخي فيها.
وبعد الاحتلال الامريكي في عام 2004 وما تلاها بدأت مرحلة مهمة من مراحل نشر الخوف من المدينة والشيئ البارز لهذا ان عملية إخراج فئة او مكون كان على حساب ملء فراغ من جانب اخر لإحداث تغيير ديموغرافي داخل المدينة .
المرحلة الأولى 2004/2014
تميزت هذه المرحلة بأستهداف المكونات (اليزيدية ,المسيحية , الشبك ,الأكراد , الشيعة) ونشر الخوف لديهم من المدينة، هنا بدأت هذه المكونات بالنزوح والتقوقع في أماكن محددة وفرض عليها ما يشبه الاقامة الجبرية وحظر التجوال وتقيدت في ممارسة نشاطاتها , حتى أصبح الجانب الايمن محرما على الكثير منهم وكانت عملية الوصول له تشكل تحديا نفسيا وامنيا خطيرا .
كما تميزت هذه المرحلة بنفس الوقت باستهداف الاساتذة والأطباء وعدد من الكفاءات التي حزمت حقائبها ورحلت , فيما دفع اخرون حياتهم ثمنا لتحدي البقاء .
المرحلة الثانية : (حقبة داعش)
سيطرة داعش على الموصل (حزيران 2014 – تموز 2017)، ساهم في خلق فوبيا خطيرة دفعت الكثيرين لمغادرة الموصل, اتضح انها سياسة منظمة من داعش لخلق فراغ لاستيعاب أعداد كبيرة من الوافديين الجدد من اماكن لم يكن أحد داخل المدينة يتوقع ان تكون من بين مكوناتها التي تسكن فيها, فقد جاء الصيني والروسي والفرنسي والامريكي والتونسي والجزائري وغيرهم من المقاتلين المتطرفين الذين اكتظت بهم المدينة, ومع انتهاء عمليات التحرير وحالة الدمار الناتجة من استخدام داعش للمدينة في عملية تحصنه وبقائه ومراهنته على عدم قدرة القوات العراقية في اقتحام المدينة القديمة, حزم الكثيرون حقائبهم وغادر الميسورون منهم المدينة لخشيتهم من ظهور تحدٍ جديد.
جرد حساب
لو اردنا الحديث عن مرحلة مابعد داعش فأن هنالك محطات عديدة تحتاج الاجابة عنها , وهي :
– هل ان مستوى الامان في المدينة يساعد على البقاء؟
– هل تلبي الخدمات الحاجة الأساسية للسكان؟
– هل قدم القادة المحليون للمدينة أنموذجا يشجع الناس على العودة للمدينة واعادة الحياة لها؟
– هل يتم معاملة المدينة وسكانها بطريقة توازي ما تعرضوا له من معاناة في ظل سيطرة تنظيم داعش الارهابي؟
– ما هي الخطوات التي تم اتخاذها لإعادة النسيج الاجتماعي للمدينة بالصورة التي كان عليها قبل عام 2003 ؟
تبذل قيادة عمليات نينوى جهودا كبيرة في إعادة بسط الامن داخل المدينة وضواحيها لتجعل منها ارضا آمنة جاذبة للاستقرار والاستثمار لكنها تواجه تحديات كبيرة في مجال ضبط السلاح , ومتابعة الخلايا النائمة لعناصر داعش والتي هي مسؤولية مشتركة بينها وبين المواطن.
اذ لا زالت الشائعات تمثل أحد الوسائل المتبعة في زعزعة الامن داخل المدينة وفي نفس الوقت فان المجتمع الموصلي لم يصل الى درجة الوعي التام بسبل مواجهة تلك الشائعات والتصدي لها, وبالتالي فان حالة الخوف تدفع البعض باتجاه التفكير بمغادرة المدينة وايجاد بدائل أخرى.
ثمة سبب اخر هو التلكؤ في تقديم الخدمات نظرا لغياب خطة حقيقية مدروسة مع ارتفاع نسب الدمار داخل المدينة ووجود عدة ملفات لم تحسم بعد كملف الانقاض والجثث وايصال الخدمات بشكل مستقر والخوف من انتشار الاوبئة والامراض.
ان امتناع القادة المحليين من مدراء دوائر واعضاء مجلس المحافظة وغيرهم من اصحاب الدرجات الوظيفية العليا عن العودة الى المدينة مع عوائلهم دفع اخرين باتجاه التقليد والتحسب , فتقليد المسؤول والتحسب من سبب عدم اعادته لعائلته تدفع اخرين باتجاه ترك المدينة .
عودة بإمكانات محدودة
لقد ساهمت المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني والفرق الشبابية في تنظيم عدة فعاليات ونشاطات تهدف الى اعادة التلاحم الاجتماعي , لكن تبقى إمكانياتها محدودة مع الحاجة لتفعيل قرارات وتشريعات تعمل باتجاه المحافظة على تراث المدينة المتنوع وبناء سلم مجتمعي حقيقي ينبذ خطاب الكراهية واعادة ترميم دور العبادة التي تهدمت وخاصة الكنائس ذات البعد التاريخي ودور العبادة الاخرى.
ما الحل ؟
اصعب ما في “فوبيا الموصل” أن المغادرين هم أصحاب رؤوس الأموال والكفاءات والطاقات الشبابية التي وجدت في مناطق أخرى ما فقدته في المدينة وفي هذا السياق يكون علينا أن نبحث عن الحلول التي تعيد التوازن للمدينة خشية من الانهيار الديمغرافي الكامل والاكثر حدة مما حصل.
على المستوى الاداري فإن وجود المسؤولين وعوائلهم سيبعث برسائل أطمئنان للمواطن الموصلي بان ما يسمعه وما يروج عنه لا اساس له.
وضع حدود معينة تتعلق بسقوف الايجارات فليس من المنطقي ان يكون ثمن ايجار بيت في الموصل 500 الف دينار بينما لا يتجاوز معدل الايجار في اربيل 300 الف دينار لمنزل بنفس المواصفات.
مراجعة ملف تقديم الخدمات ومحاولة سد الفجوة عن طريق فتح بوابات الاستثمار مما يخلق فرص عمل تقضي على البطالة.
الاهتمام بدور العبادة والمناطق ذات البعد التاريخي لشركاء الوطن، وضرورة ان يتم الاعمار واعادة التأهيل بصورة متوازية, دون ان تكون الفجوة ظاهرة في مسالة الاهتمام .
تقديم منح وقروض مالية للعوائل التي نزحت وتركت المدينة منذ عام 2006 لتشجيع عودتهم لمناطقهم .
يبقى الملف الأمني ودور الاستخبارات وجهاز الامن الوطني في توجيه الضربات الاستباقية ضد العابثين بامن الوطن بما يحقق الامان والاطمئنان للمواطن ومد جسور الثقة والتواصل معه .
اصلاح العملية السياسية وإلغاء المحاصصة هو الكفيل ليس في انقاذنا من الفوبيا الوطن كله والذي دفع مئات الآلاف من العراقيين لحزم حقائبهم ومغادرة البلاد.