الفتاة الكردية “ألوان” ذاكرة توقفت عند لون الدماء

 حلبجة – رنكين سلام 

حينما كانت ألوان ابنة السابعة تلهو في باحة منزل عائلتها في زقاق (توه وشك) أحد ازقة مدينة حلبجة مع اقرانها قبل 36 عاما لم تتوقع ان ذلك اليوم سيغير حياتها للأبد ويحفر في ذاكرتها فجوة كبيرة لا يمكن ردم الألم فيها لسنوات طويلة.

ألون علي محمود التي بلغت ربيعها الثالث والاربعون اليوم تستذكر بمرارة لحظة قصف مدينتها بالأسلحة الكيمياوية عام 1988 وهي واحدة من عدد قليل نجا من الحادثة من اقاربها وتقول “ركضنا انا وعائلتي بسرعة للاختباء في غرفة داخل منزلنا تشبه الملجأ بعدما وقع صاروخ على منزل خالي المجاور لمنزلنا، وكان يوما لا يوصف بالكلمات ولا المشاعر”.

شعرت بضيق في أنفاسها وانا اتحدث اليها وكأن ماكينة ثقيلة طحنت رئتها وظهرت الامراض على وجهها وعيناها اللتان طوقهما سواد خفيف مثلما تطوق غيوما رمادية سماء الربيع الدافئ، فأكملت بصعوبة حديثها وقالت “فقدت ابي وجدي وشقيقي واثنين من شقيقاتي ولا زلنا نعاني انا وبقية افراد عائلتي من ذلك اليوم المشؤوم”.

وتعرضت مدينة حلبجة ذات الغالبية الكردية التي قرر الايرانيون احتلالها اثناء الحرب العراقية – الإيرانية في آذار 1988 في عملية عسكرية أطلقوا عليها “ظفر 7” آنذاك لعملية قصف بالأسلحة الكيمياوية تبادل فيها العراق وإيران الاتهامات في استخدامها آنذاك.

ليست ألوان وحدها من تحمل ذاكرة مؤلمة عن ذلك اليوم إذ تشير احصائيات مستشفى ضحايا السلاح الكيمياوي في حلبجة اليوم الى وجود (2400) ناجيا من القصف الكيمياوي لحلبجة 70 في المئة منهم من النساء وان هؤلاء الناجين لديهم اضابير في المستشفى المذكور ويتلقون علاجا شهريا منها بحسب ما قاله عماد فيروز مدير مستشفى السلاح الكيمياوي في المدينة.

ويعاني الناجون من امراض جسدية عدة مثل ألوان تماما تتعلق بإصابات في العيون والجهاز التنفسي وتشوهات جلدية الى جانب الامراض النفسية التي ألمت بهم حتى بعد نجاتهم من الموت وبعضهم يعاتب نفسه لأنه نجا بعدما فقد جميع احباءه وكأن النجاة كان لعنة.

وليس هناك علاج نهائي للمصابين في القصف الكيمياوي إذ خضعت ألوان لأكثر من سبع عمليات لتوسيع قرنية عينها وتقول “لست المصابة الوحيدة من عائلتي، فأخي واثنين من اخواتي أصيبوا أيضا اثناء القصف وتسربت العاهات الى أجسادهم المتعبة، اختي سروين كانت في الثالثة من عمرها إذ اتلفت قرنية عينها بالكامل بسبب الغازات المنبعثة من القصف ولازالت حتى اليوم على حالها”.

وتصف الفتاة الكردية التي تقطن حلبجة حتى اليوم تفاصيل حادثة القصف الكيمياوي وتراكض الناس عقبه بحثا عن مخرج من الجحيم الذي طال الكثيرون وأباد عائلات كاملة آنذاك بصوت مؤلم وكأن تلك الصور قفزت من ذاكرتها بشكل مفاجئ فألقت بضلالها على ملامح وجهها.

“كان الأطفال والامهات يركضون خائفين ويحاولون الوصول الى مخبأ آمن، ولكن الكثيرون منهم لم يتمكنوا من ذلك، وحتى بعد القصف وجمع الجثث لم تتعرف الكثيرات من الأمهات الى اطفالهن ولا الأطفال على امهاتهم بسبب التشوهات الخلقية التي اصابت الضحايا” تضيف ألوان.

 

يقول محمد ولي المعالج النفسي في مستشفى علاج السلاح الكيمياوي في حلبجة والذي تم افتتاحه عام 2019 في المدينة ان الضحايا من الرجال والنساء والذين نجوا من المجزرة مازالوا يتلقون علاجا نفسيا، لكن نسبة الرجال الذين يراجعوننا أكثر من النساء بكثير بسبب الخجل من المجتمع.

ويضيف “الذين أصيبوا ونجوا من المجزرة مازالوا يحملون في ذاكرتهم تفاصيل سيئة عن ذلك اليوم ويعانون عقدا نفسية عدة يصعب علاجها في وقت قصير”.

مصابي السلاح الكيمياوي الذين يمتلكون هويات كانت لديهم منحة خاصة من وزارة الشهداء في إقليم كردستان، لكنها توقفت في آذار من العام الماضي تقول ألون ان هذه المنحة كانت تعين المصابين في الحادثة لشراء جزء من العلاج الذي لا يتوفر في المستشفيات الحكومية.

لا تحب ألوان فصل الربيع إذ تعشعش تلك اللحظة الحالكة في ذاكرتها فتجعلها خالية من أي لون، ولا تحب رائحة الورود والطبيعة ايضا وتقول “في الربيع اشعر بضيق في التنفس ولا أستطيع الضحك او الشعور بالفرح بل يتوسع ألم كبير في صدري حتى ينتهي هذا الفصل، وأتمنى ان لا يتكرر ذلك المشهد المؤلم في اي بقعة في العالم”.

 

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى