نفط العراق.. حصة الفرد من الناتج الكارثي

كتابة زاهر موسى

لم يكتفِ النفط في العراق باستدراج غزواتٍ وبلدانٍ مستعمرة والتسبّب في حروبٍ كثيرةٍ وفسادٍ منقطع النظير؛ بل أسهمت الثروة النفطية بتسميم سكان وادي الرافدين.

الأرض التي تحتوي النفط في العراق، للمفارقة، لم يُستكشف منها 80 بالمئة حتى الآن. وبرغم وجود 80 حقلاً نفطياً إلا أن 27 منها فقط تنتج الثروة السامة هذه. فكيف سيبدو مشهد البلاد لو شاءت الأقدار أن يتم استكشاف كل الأرض، وأن تعمل الحقول كلها وبكامل طاقتها؟

أذرع التلوث الضاربة

جغرافياً، صناعة النفط في العراق غامضةٌ ومتكتمة. الحقول نائية وشركات النفط تحيط نفسها بأسوار أمنية تشبه المقرّات العسكرية، وربما لهذا السبب كان المحتجّون خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة والمطالبون بالوظائف في هذه الشركات يتحاشون مواقع عملها المدجّجة بشركات الأمن الخاصة، ونتيجة لذلك فإن أشد ما قاموا به لإزعاج هذا الأخطبوط هو قطع الطريق الذي يسلكه موظفو الحقول في محافظتي البصرة وميسان جنوبي البلاد.

فرض هذا الغموض شُحّةً في المعلومات عن طرق الاستخراج المعتمدة، وكل ما يمكن قوله إن صناعة النفط تفرز آلاف الأطنان من الأتربة والمياه الملوثة والأحماض والمواد الكيميائية التي تختلط بالمياه الجوفية والسطحية والأراضي الزراعية المجاورة.

ثم يأتي بعد ذلك دور الحرق المستمر للغاز المصاحب للنفط والذي يتسبب بأمطار حامضية في عدد من محافظات الجنوب، بالإضافة الى التلوث الإشعاعي، وتكون آخر ملامح الكارثة ما تنتجه المصافي من ملوّثات هائلة تجد طريقها إلى السماء والأنهار بشكل سلس.

تلوّث السماء 

تطلق حقول النفط في العراق يومياً رصاصاً غير مرئي إلى السماء سرعان ما يعود إلى رئات الناس، إذ تتسبب هذه الصناعة -وللدقة التساهل في إجراءات الوقاية البيئية فيها- في إنتاج غازات عدة أبرزها أول وثاني أوكسيد الكربون اللذان يتحدان بهيموغلوبين الدم مما له تداعيات خطيرة، فضلًا عن دورهما في الاحتباس الحراري.

وهناك غاز ثاني وثلاثي أوكسيد الكبريت الذي يتسبب بالأمطار الحامضية المتكرّرة في جنوب العراق، والغاز الأخير يتسرب إلى الارض كالسم، فيقوم بتذويب أساسات الأبنية والمعادن الخطرة ناقلاً إلى المياه الجوفية والأراضي الزراعية عوامل قاتلة أفظعها حمض الكبريتيك، وتضاف إلى هذه الباقة المفزعة غازات مثل كبريتيد الهيدروجين، أكاسيد النيتروجين وثاني أوكسيد النتروجين، أوكسيد النتريك، أبخرة الهيدروكاربونات.

تلوّث الأرض

ينتج كل طن من النفط 5 كيلوغرامات من الملوّثات الصلبة، واذا عرفنا أن العراق ينتج يومياً 800 ألف طن من النفط فهذا يعني أن صناعة النفط تنتج 4 آلاف طن من الملوّثات الصلبة يومياً، و120 ألف طن شهرياً.

تتنوع هذه الأطنان، التي تتضمن الهيدروكربونات الأروماتية متعدّدة الحلقات المسرطنة، ما بين مخلفات عمليات تكرير النفط الصلبة والمواد النفطية الثقيلة الناتجة من وحدات معالجة المشتقات النفطية، بالإضافة إلى الأوحال والأطيان المتخلفة من وحدات معالجة المياه الصناعية والحفر والترسبات المتجمعة في قعور الخزّانات التي يتكون معظمها من المواد النفطية الثقيلة، وكذلك الرمال المستخدمة في عمليات الترشيح، يُزاد عليها البراميل الفارغة والتالفة الخاصة ببعض أنواع المحسنات مثل رابع أثيلات الرصاص.

ضياع الماء وتلوّثه

يعيش العراق أزمة ماء واضحةٍ وكبيرة. لكن صناعة النفط في واد آخر، ولا يبدو أن السلطة أو شركات النفط العالمية في مورد التفكير بحلولٍ لهذه الأزمة التي يساهمون في تفاقمها، إذ يحتاج كل طن منتج من النفط إلى ضخ 15 متراً مكعباً من الماء بدلاً عنه، وهذا يعني أن العراق ينفق 12 مليون متر مكعب من الماء يومياً في حقن آباره.

إلى هذا الحدّ يبدو الثمن طبيعياًلكن المشكلة في ما يرشح عن هذا الماء لاحقاً، إذ أن خمسة أمتار مكعبة من هذه المياه تعود محمّلة بالمواد السامة في مرحلة التكرير عن كل طن من النفط، وهذا ما يجعل الخطر كبيراً على كل ما تلامسه من أرض أو نهر.

أثر الحرب

لم يترك غزو عام 2003 شيئاً سليماً في البنية التحتية بالعراق، إذ استهدفت المنشآت النفطية وخطوط الأنابيب الناقلة للنفط بنحو 160 هجوماً أدت إلى حرق أكثر من 63 ألف متر مكعب من النفط الخام وأكثر من 82 ألف متر مكعب من المنتجات النفطية و 2,4 مليون متر مكعب من الغاز، واستمر مسلسل الهجمات في حقبة الإرهاب ليتجاوز هذا الرقم بأضعافٍ مضاعفة، ليخلّف كل هذا الحرق ما لا يمكن تخيّله من سموم في البيئة.

حصّة الفرد من الناتج الكارثي

لدى العراقي حصة في الناتج القومي لبلاده، لكن من المؤلم أن يكون له ناتج معروف ومشخّص من السموم في بيئته.

بحسب الإسكوا تبلغ حصة المواطن العراقي من غاز ثاني أوكسيد الكربون حوالي الـ 3 ملايين طنّاً في أحسن التقادير بعد أن تجاوز حجم الانبعاثات الـ 100 طن خلال العقد الماضي، في حين وصل تركيز الرصاص في بغداد البعيدة عن حقول النفط المنتجة كحد أعلى له 3.7 ميكروغرام / متر مكعب.

وحينما نعلم أن الحدود العظمى المسموح بها للتعرض لغاز ثاني أوكسيد الكبريت تتراوح ما بين 3 – 10 أجزاء من المليون، يبلغ أعلى معدل سنوي لتركيز غاز ثاني أوكسيد الكبريت في بغداد في محطة الأندلس – بحسب وزارة التخطيط – 32 جزءاً من المليون في عام 2015 ولا توجد بيانات عن البصرة ونينوى.

يحرق العراق يومياً 1,5 مليار قدم مكعب قياسي من الغاز المصاحب، تتركز نسبة 65 بالمئة من المحروق في البصرة التي يسكنها أكثر من ثلاثة ملايين مواطن، وهذا يعني أن 3 أطنان من ثاني أوكسيد الكربون تضاف يوميًا إلى الهواء الذي يتنفسه البصريون.

مما يضاف إلى كل هذا هو إنتاج المصافي الرديء الذي يتجسد في عوادم السيارات، إذ أن البنزين المنتج في العراق يبلغ تركيز الرصاص فيه 0.84 ملجم/ لتر، وكذلك نسبة 50 بالمئة من العطريات المضافة وهي نسبة مرتفعة جداً بالمقياس العالمي، أما بالنسبة للكبريت وتركّزه في الديزل فإن نسبة تركيزه في المصافي العراقية يصل إلى نحو 25000جزء من المليون.

تسبب السموم التي تبثها الصناعة النفطية في العراق أمراض الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والسرطانات والكلى وأمراض القلب والأوعية الدموية كما تسبب الولادة المبكرة والإجهاض والعيوب الخلقية لدى حديثي الوالدة وانخفاض وزن الطفل عند الولادة وارتفاع معدلات الوفاة المبكرة، بالإضافة إلى أمراضٍ أخرى كالطفح الجلدي ومشاكل في الذاكرة والصداع والخمول وضعف المناعة.

 ويبدو أن الضحية المباشرة لهذه الصناعة هم العاملون فيها الذين أصيبوا بأمراض سرطانية وأصيب آخرون بالعقم والربو وأمراض العيون فضلّا عن التشوّهات الخلقية للمواليد الجدد في المناطق المحيطة بحقول النفط ولزوجات العاملين في الشركات النفطيةوقد تحصل تغيرات في الجينات لهؤلاء العاملين بسبب تعرّضهم المستمر لسحب غاز H2S وCo2  وعدم التزام الكثير منهم بتعليمات السلامة و الوقاية من التلوث.

الاحتياطي ولعاب السلطة الممغنط

لكن النفط له أثر سياسي على العراقيين ومستقبلهم. فعندما ترتفع أسعار النفط عالمياً يرتفع معها منسوب الصراع السياسي في العراق، والسبب هو محاولة كل طرف الاستفراد بالواردات المليارية الناتجة عن تدفق الذهب الأسود من أرض السواد. اليوم، ونحن نعاصر الصراع الروسي الأوكراني وآثاره على سوق الطاقة العالمية، تعمل السلطة في بغداد على عدم الاكتفاء بإنتاج 4.8 ملايين برميل يومياً، برغم أن هذا الرقم لا يغيّر كثيراً من حجم الفقر الذي لامس الــ 40 بالمئة من السكان، على العكس، يجري العمل على زيادة الإنتاج إلى 6 ملايين برميل يوميًا قبل 2027 وإلى 8 ملايين برميل يومياً بنهاية عام 2027، وكنتيجة طبيعية فإن زيادة الانتاج تعني زيادة التلوّث.

زيادة على كل ما سبق، أعلنت وزارة النفط العراقية عن الرقم المؤكد لاحتياطيات العراق من النفط الخام وهو 143 مليار برميل عام 2015، حيث يشكل هذا الرقم نسبة 14.8% من احتياطيات أوبك و11.4% من احتياطيات العالم، وهو ما جعل العراق في المرتبة الخامسة عالمياً في ما يخص الاحتياطي المؤكد، أما في ما يخص الاحتياطي المخمّن فهو ينافس على المركز الأول، وهذه المعلومات مشؤومة بالنسبة لشعب يرى في النفط إغراء يجذب شهوة المغتصبين داخلياً وخارجياً.

تم انتاج هذا العمل على موقع خط٣٠ وينشر بالاتفاق معه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى