“لعنة قيادة الشرطة”.. أحد عشر قائداً للشرطة في الناصرية لم يتمكنوا من تطويعها 

 الناصرية- منتظر الخرسان

لم تشهد مدينة عراقية تغييرات على مستوى القيادات الأمنية كما شهدت مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار، إذ سجلت منذ اندلاع احتجاجات تشرين الأول 2019 تغييراً لقادة شرطتها الذين بلغ عددهم حتى الآن أحد عشر قائد شرطة، آخرهم تم تكليفه منذ قرابة الشهرين.

المدينة الجنوبية التي تجاوز عدد سكانها المليوني نسمة والتي تحتل المركز الثالث بين المدن العراقية في نسبة الفقر بحوالي 38% لم تهدأ شوارعها يوماً حتى مع انتهاء احتجاجات تشرين، إذ يكاد لا يمر أسبوع من دون أن تمتلئ ساحاتها وطرقها الرئيسة بالمتظاهرين المطالبين بتحسين الواقع الخدمي.

وتضاف إلى قائمة المطالب اليوم عدم الملاحقة القانونية لعشرات الناشطين المتهمين من قبل الأحزاب الحاكمة بالتحريض على العنف وكذلك احتجاجات يقودها خريجون جامعيون ينشدون الحصول على وظيفة حكومية أو فرصة عمل.

ودائماً ما تشهد هذه التظاهرات صدامات مستمرة بين قوات الأمن العراقية والمحتجين بعد أن بات غلق المؤسسات الحكومية صفة ملاصقة لأغلب الاحتجاجات الموجودة حاليا كعامل ضغط للاستجابة للمطالب. 

بدأ تغيير قادة الشرطة لمدينة الناصرية التي تبعد عن العاصمة بغداد 360 كيلو متراً منذ الأول من تشرين الأول 2019  وكان على رأس الجهاز الشرطي آنذاك اللواء حسن الزيدي.

وما أن استخدمت القوة الأمنية المكلفة آنذاك بتفريق المتظاهرين الرصاص الحي على مدار ستة أيام وراح ضحيتها آنذاك قرابة العشرة قتلى على الأقل وعشرات الجرحى حتى تم تغيير اللواء الزيدي وتشكيل لجنة أمنية عليا للتحقيق في الحادث وتكليف معاونه العميد رسول خيون بإدارة قيادة الشرطة لحين تعيين قائد جديد.

ولم ينقض شهر تشرين الأول حتى تم تكليف محمد عبد الوهاب السعيدي بقيادة للشرطة وهو ضابط برتبة عميد لم يستمر في منصبه سوى 18 يوماً ليتقدم إلى وزارة الداخلية بطلب إعفائه من المنصب وفقاً لمصادر امنية.

وبحسب ذات المصادر فإن السعيدي “وجد أن التعامل مع ملف هذه المدينة سيدفع به نحو استخدام العنف ولم يكن يرغب بأن تكون حقبته صدامية مع المحتجين”، ليتولى بعده اللواء محمد القريشي الملقب بأبي الوليد مهمة القيادة. 

القريشي قائد عسكري كان قد تسلم إمرة لواء الذئب عام 2004 لمحاربة تنظيم القاعدة في مدينة الموصل وحقق انتصارات آنذاك، إلا أن فترة  توليه لمنصبه كانت قصيرة كسابقيه من الضباط في الناصرية، فقد تسلم مهامه في 12 تشرين الثاني 2019 وبعد أيام أرسل رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي قوة عسكرية يترأسها الفريق جميل الشمري مهامها السيطرة على الشوارع الرئيسة والجسور لمواجهة تحركات المتظاهرين.

تطبيق الخطة الأمنية التي انطلقت في ليلة 28 تشرين الثاني 2019 تسبب بصدامات قوية مع المحتجين وانتهى بعد يومين مخلفاً ما يسمى بـ “مجزرة جسر الزيتون” التي راح ضحيتها 45 قتيلاً على الأقل و أكثر من 250 جريحاً.

حافظ أبو الوليد على منصب قائد للشرطة لـ 21 يوماً فقط وبعد حادثة الجسر تم اعفائه منه وتكليف العميد ريسان الإبراهيمي في 2 كانون الأول 2019 الذي بعث برسائل تهدئة للشارع الناصري قبل تسلمه المنصب وذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

“لعنة منصب قائد الشرطة” لاحقت الإبراهيمي أيضاً الذي بقي في موقعه خمسين يوماً صدر قرار خلالها بترفيعه إلى رتبة لواء لكنه سرعان ما تقدم بطلب الإعفاء من منصبه، ليُكلّف بعده العميد ناصر الأسدي في 22 كانون الثاني 2020 ويستمر لـ 112 يوماً فقط لم تهدأ خلالها شوارع الناصرية ولا جسورها التي كانت مقطوعة في ساعات الصباح الأولى من قبل المحتجين يحاولون منع موظفي الدوائر الحكومية من الذهاب إلى المؤسسات، كخطوة تصعيدية كي ترضخ الحكومة لمطالبهم.

المحتجون آنذاك أقدموا على خطوة تصعيدية بمنع عبور الشاحنات المحملة بالنفط والمواد الصناعية الخاصة بالحكومة والقادمة من موانئ البصرة نحو العاصمة بغداد عبر جسر “فهد” شمال غرب الناصرية، وهو موقع هام لمرور المركبات.

استمر القطع أيام عدة ما تسبب بضغط على حكومة بغداد التي أرسلت قوة أمنية قامت بفتح الجسر بالقوة في عملية راح ضحيتها اثنان من المتظاهرين وعدد من الجرحى وتبع ذلك في اليوم التالي مواجهة وسط المدينة قرب ساحة الحبوبي مركز الاحتجاج جرح فيها قرابة 80 متظاهراً وبسببها تم تغيير الأسدي وتكليف العميد حازم الوائلي بقيادة الجهاز الشرطي.

ويعد العميد الوائلي الأقرب للمحتجين والأنجح في التواصل معهم، ويسجل له أنه القائد الوحيد الذي تمكن من إدخال عجلات الشرطة إلى ساحة الحبوبي بمساعدة المحتجين لمنع أي محاولة لاستهدافهم من قبل جماعات كانت تدخل إلى الساحة ليلاً بغرض إيذائهم. 

لكن إدارة الوائلي للملف الأمني للمدينة، والتي استمرت مدة طويلة نسبياً (223 يوم) انتهت بعد دخول أنصار الزعيم مقتدى الصدر ساحة الحبوبي في 27 تشرين الثاني 2020 وحرقهم خيم المحتجين ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى، وكان هذا سبباً في تغييره.

وزارة الداخلية وجهت آنذاك قوة أمنية من الشرطة الاتحادية والجيش برئاسة اللواء عودة لايذ لقيادة شرطة ذي قار وحماية الساحة ومنع أي احتكاك مع أي جهة سياسية أو دينية، واستمر لايذ في منصبه 131 يوماً إلا أنه تقدم بطلب الإعفاء من منصبه ليتم تكليف اللواء مؤيد التميمي بالمنصب، ولم يدم فيه هو أيضاً سوى 63 يوماً.

أما الفترة الأطول في هذا المنصب فسجلها الفريق الركن سعد الحربية الذي كان قائد عمليات كركوك وشارك في معارك التحرير ليتسلّم في 10 حزيران 2021 مهام قيادة عمليات سومر التي تشرف على الناصرية والسماوة والكوت والعمارة آنذاك إلى جانب مهمة قيادة شرطة ذي قار، واستمر في مهمته 515 يوماً.

تغيير الفريق الحربية جاء بعد تظاهراتٍ مطالبة بعدم الملاحقة القانونية للمحتجين والناشطين بسبب دعاوى سابقة تم تفعيلها، وعلى إثر المظاهرات حصل صدام دامٍ راح ضحيته قتيلين وأكثر من 20 جريحاً، وهي التظاهرة الدموية الأولى خلال حقبة رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، ليتم تكليف العميد مكي شناع في 7 كانون الأول 2022 ثم ترفيعه في كانون الثاني 2023 إلى رتبة لواء.

حسن العراقي أحد المحتجين قال للمنصة إن التغييرات التي تحصل بين فترة وأخرى بين قادة الشرطة ليست مبنية على أساس إيجاد حلول لهذه المدينة واستقرارها وإنما هي “محاولات سياسية لإرباك الوضع ووضع المتظاهرين أمام خيارين، إما الخضوع أو مواجهة الرصاص الحي”، معتبراً أن “لا مبرر لاستخدام القتل في تفريق التظاهرات ولا مبرر في الوقت ذاته للاعتداء على القوى الأمنية” ومؤكداً أن “إصابة المتظاهرين وقتلهم يشير إلى أبعاد سياسية ومصالح تقف وراءها جهات حزبية معينة”.

مراقبون مختصون يرون أن التغييرات التي حصلت لم تكن لاعتبارات مهنية أو أمنية، إنما أخذت بعين الاعتبار إرضاء الشارع من جهة، ولكون مدينة الناصرية “المكان الأنسب” لترفيع عدد من الضباط الكبار، إذ لا يمكن ترفيع أي قائد من رتبة عميد الى لواء اذا لم يكن لديه منصب عسكري، بالإضافة الى إرضاء جهات سياسية.

الباحث في الشأن الستراتيجي صلاح حسن يجد أن أغلب التغييرات التي أجريت خضعت للأمزجة السياسية ولم تكن على أساس مهني، “إذ تجد أغلب أحداث العنف التي حصلت خلال تسنم بعض القيادات من ذوي التوجهات السياسية”.

ويتابع أن “هؤلاء القادة عملوا على إبقاء الناصرية مدينة توتر تربك المشهد السياسي ليتخذوا من أسلوب المواجهة بالرصاص الحي وسيلة لإنهاء التظاهر وفي الصورتين تبقى المدينة غير هادئة”.

ويرى أستاذ العلوم السياسية قاسم شويل أن عوامل متحدة دفعت نحو سلسلة التغييرات في صفوف القادة من بينها قضية الترفيع لرتبة أعلى، “فحتى وإن كان الظرف الامني حرجاً، لا يمانع بعض القادة من تقلد المنصب” يقول شويل.

ويضيف أن هناك أهداف أخرى وراء التغييرات من بينها امتصاص موجة غضب الجماهير بعد كل حدث، مشيراً إلى أن “التعليمات التي تصدر لكل قائد أمني تقضي بعدم الصدام أو استخدام القوة ضد المتظاهرين إلا أن حالات التعدي على المنتسبين كانت تدفع القوى الأمنية لاستخدام الطلق الناري الحي وبالتالي توليد ردة فعل”.

ويتابع أنه ووفقاً لآراء ضباط وأمنيين “كان بالإمكان تهدئة المتظاهرين عبر خطط منظمة دون اللجوء للعنف ولكن يلحظ من مآل الأمور أن الناصرية يجب أن تكون نقطة تهدد الوجود الحكومي وبؤرة توتر”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى